تلك العلاقة العجيبة التي أستغربها ولا أدري لما أنساق دوما وراء هذه المخلوقات، قلبي يطير معهم وتستهويني حتى لكأنها تشعر بحبي لها، طائر الحمام، نعم، فمنذ صغري بدأت علاقتي بتلك الطيور.
كانت جدتي تستقبل تلك المرأة الريفية الجميلة "أم هيام" من إحدى قرى الفيوم تأتي لها بالزبد والبيض والطيور من قريتها.
امراة ممشوقة القامة تميل للنحافة سمراء ذات شعر ذهبي وعيون عسلية وتشبه لحد كبير الممثلة الأمريكية الشهيرة "جيمي لي كيرتيس".
كنت ألحظ أنها تحشي صدرها بأقمشة او خرق قماش تكورها وتضعها في صدرها وتدس بين تلك الخرق محفظة جلدية كبيرة نوعا تضع بها النقود.
كنت أستغرب منظر صدرها الخالي من الأنوثة الممتلىء بخرق القماش المتعرجة رغم تكورها، ولما لمحتني أتأمل صدرها ذات مرة ، قالت لي بتفاخر غريب "لا تعتقدي أني أحتاجه فقد أرضعت منه هيام حتى شبعت والنساء نساء حتى لو كن نحيفات، هناك ألوان من ال....
تنهرها جدتي سريعا قائلة "اصمتي ودعي البنت...تعالي هنا أريد أن أحاسبك" تعلم أن لا شيء سيردها إلا الكلام عن الحساب والنقود تعود في ثانيتها وقد اعتدلت جلستها وبدأت في الحساب بدقة وأمانة كأنها حاصلة على أعلى الشهادات رغم أنها لا تجيد القراءة والكتابة.
أم هيام تزوجت مرتان وكانت تستعد لزيجة ثالثة من كهل أرمل معروف بغناه في القرية، ولكنها رغم ذلك ترفض أن تترك مهنتها وتصر على التجارة الرائجة لها في القاهرة.
سألتها جدتي ولماذا تتزوجين إذن طالما ستستمري في عملك ردت بابتسامة ماكرة "أبناؤه أجبروه على كتابة كل أملاكه بيعا وشراء لما علموا بنيته في الزواج بي حتى لا يأتي لهم أخ يشاركهم".
ولكن تجارتي ستصير أكثر رواجا وأنا معه، سأدخر كل أموالي وسيشتري لي دارا صغيرة بأطراف البلدة وقرب الطريق ويصرف هو علي وعلى هيام ماشاءالله صارت عروسا وبدأ العرسان يطرقون بابي ويجب أن يكون معي رجل يتكلم ويتفق، إلى جانب أنني في شدة الاحتياج لرجل يا حاجة و...
تحدجها جدتي بنظرة حاسمة وتقول لها بحزم
-خلاص خلاص فهمنا يا ملعونة،
تضحك أم هيام وتداري جدتي شبح ابتسامة وهي تلقي بنظرتها علي فتجدني ساهمة مع حركة "قفص الحمام".
ولكن.. على ما يبدو اقتنعت جدتي التي تعرف أن أم هيام أبدا لا تدخل صفقة خاسرة، لا بد من أن تقتنص لها من المكاسب أكثر مما يتخيل أي شخص عادي، لها فراسة لا تخطىء وعينا ذئبة ماكرة وطيبة.
تقوم أم هيام بعمل كل ما يلزم لجدتي، من ترتيب لسلال البيض بالثلاجة ووضع الزبد بعد "تسييحه" في برطمان زجاجي.
كنت مازلت في الرابعة عشر أشاهد تلك العملية المعقدة بكثير من الفضول، وكنت أجلس بجانب "سلة كبيرة بها الحمام مترابط ببعضه البعض ولا أدري كيف لا يطير والغطاء خفيف شفيف يهتز ويصدر الحمام هديله بصوته المحبب لنفسي.
تقترب مني أم هيام وكانت جريئة تعرف قدر جمالها وتغمز لي بشكل غامض، تردها جدتي دوما بنظرة حاسمة إذ ترى أن كلامها "الجريء" لا يصح في حضرة الصغيرات، تهمس لي أم هيام "لا بد أن تسقي الحمام بنفسك".
-كيف؟
-ضعي كمية من الماء بفمك ثم ضعي منقاره في فمك واسقيه...
-وهل يشرب؟
-نعم لو كنت نظيفة ورائحتك حلوة يشرب منك الحمام وتستكين إناث الحيوانات وأنت تحلبينها.
وكنت أفعل، أسقي الحمام، وكم كنت سعيدة وأنا أسمع غرغرة طفيفة تكاد لا تسمع وهو يشرب الماء من فمي، وأظل أقبله في عينه وأضمه فيهدل في حضني.
حتى كان يوم واشترت جدتي الحمام وسقيته بفمي ثم قامت أم هيام ونادتني لأشاهد ذبحه.؟!
حجم الصدمة والفزع الذي تملكني وأنا أشاهد أصدقائي يذبحون "بعد أن سقيتهم بفمي" كان مهولا.
قلت لها، كيف تريدينني أن أشاهد ذبحهم وقد أعطوني الأمان وشربوا من فم، نفس الفم الذي سيأكلهم في الظهيرة؟ كيف آكلهم ...آكل اصدقائي؟؟
ضحكت أم هيام التي كانت رغم "أميتها" تجيد الحساب كما تجيد الحياة..قالت...هذا أول درس...لا تأمني كثيرا لمن يسقيك اليوم..فلربما هو آكلك غدا.
غاصت روحي في روحي ووقع قلبي في قدمي حرفيا وجريت دخلت البلكونة أشاهد الحمام يطير في فضاء الله يبشر بالسلام رغم علمه بأن نهايته الذبح.
ظللت أدندن في بلكونتي أغنية فيروز التي نغنيها في مصر منذ عقود "يالله تنام يالله تنام وأدبحلك طير الحمام..روح يا حمام لا تصدق"
هل ينبغي على الحمام ألا يصدق الحقيقة التي يعرفها جيدا ويخدع نفسه؟ أم عليه أن يستسلم؟؟!
كان الدرس مؤلما جدا، ليس لعمقه فقط، ولكن لأنه سيحرمني من أكل الحمام حزنا على اول درس بعمري..ولفترة لا بأس بها :)
"نوستالجيا الحمام"
يتبع