كنت في الإعدادي، لا استطيع أن أنسى وجهها الأبيض المستدير وحاجبيها الكثيفين وملامحها الطيبة، كانت متفوقة وهادئة دموعها سريعة الجريان لأقل كلمة من زميلاتها، كنت معجبة باهتمامها بنظافتها الشخصية رغم بساطة حال ملابسها، فبرغم أن الزي المدرسي كان موحدا إلا أن لون القميص وحالة "البدلة" الرمادية والكرافات النبيتي كانتا تظهران فروقا مجتمعية واضحة.
لكن ناديا، بضفائرها السميكة المهندمة رغم رقة حال زيها المدرسي، كانت دوما ذات رائحة نظيفة ومميزة.
اقتربنا أكثر وصرنا صديقتين متلازمتين حين دافعت عنها في أحد المواقف لمعرفتي برقة مشاعرهاـ وأجبرت فتاة متنمرة على الاعتذار لناديا.
في حصة الدين ناديا ننفصل مع زميلاتنا، وكالعادة المسيحيات في فصل والمسلمات في فصل آخر،
نلتقي بعد الحصة نبتسم ونسير هادئتين تجلس خلال "الفسحة المدرسية" أذهل من ثقافتها على سنها الصغيرة، تخرج ساندويتشات "جبنة" أو طعمية وقت صومهم فقط ويوميا،
أحاول أن أعطيها من ساندويتشاتي على سبيل التجربة ترفض، ترفض بشدة، أدعوها لزيارتي بمنزلي تعتذر، ناديا، كأن بها سر لا تريد الإفصاح عنه.
نتحدث كثيرا في الشعر والأدب تحب ان تسمعني أتحدث عن كتب ابي التي اقرأها وهي تحكي لي كثيرا عن مكتبة الكنيسة العامرة بكل أشكال والوان الكتب، تستعيرها وترجعها، أغبطها على مكتبة الكنيسة وتغبطني لأن كتب ابي لا أحتاج لن أرجعها.
كانت شديدة الذكاء وتراني أنا أيضا كذلك وتجاهر برأيها في فتقول بلطف شديد "أنت ذكية وطيبة" وهاتان صفتان شديدتا الجمال إذا ما اجتمعا، باقي البنات معظمهن لئيمات !
كان أكثر ما يذهلني هو شعورها بالرعب وبكائها إذا ما سقط "زرار" من القميص الوردي الذي تحرص على قفل كل زر فيه حتى أشعر أنها تختنق، أطالبها بفتح الزر الأخير فقط لتعطي مساحة لرقبتها فترفض رفضا باتا.
وآه لو انقصف سن قلم، أو ضاع منها القلم من الأساس، تنهار في وصلة بكاء فيرق لها قلبي وأعرض عليها أن تأخذ قلمي لكنها تتمتم "سيعرفون انه ليس قلمي"،
أخمن أنها تقصد أمها وأباها، لعلهم من الآباء الصارمين وما كان أكثرهم في تلك الأيام.
كانت دوما تتحدث عن "إخوتها" بحب شديد، وكنت أستغرب أن لديها اخوات بنات فقط، أحاول أن احصي اسماء اخواتها البنات اللائي تجيء على ذكرهن دوما فأفشل "جاكلين، تيريز، ماري آن، حنان،" هذا ما استطعت تذكره عن اخواتها
وكانت إحداهن معنا بالمدرسة "ماري آن" ولكن تكبرنا بعام، مختلفة تماما عن ناديا فقد كانت سمراء غامقة السمرة كأنها من الجنوب، كما كانت قوية الشكيمة بها بعض الاندفاع ولكنها ما إن تجلس معنا حتى تظهر شخصية أخرى طيبة بها انكسار لا استطيع تمييز سببه ربما لصغر سني وهي على عكس اختها ناديا غير متفوقة.
في أحد الأيام سألتها أين تسكن، ارتبكت ثم قالت في شارع "........"، انفرجت أساريري وقلت لها إذن نغادر سويا لأني ذاهبة لعمتي التي تسكن في نفس الشارع، هنا امتقع وجه ناديا وظلت تتهرب مني طيلة اليوم الدراسي، هكذا شعرت.
قلت لنفسي، غالبا تسكن في بيت بسيط وتخجل أن أراها تدخله، كان هذا الشعور هو ما دفعني كي أتغافل عنها باقي اليوم الدراسي لكي أعفيها من الحرج.
خرجت من مدرستي متجهة لبيت عمتي وما إن دلفت لشارع عمتي حتى لمحت ماري آن وناديا تسرعان وهما تنظران يمنة ويسرة وأقدامهما تخطو نحو بوابة بيت صغير هادىء أعرفه جيدا تسوره حديقة صغيرة عليه لافتة مكتوب عليها
"بيت ....للفتيات اليتيمات".
حدث بالفعل