لا أتذكر متى وقعت في غرام "الفول" وصرت أحبه حبا لا يضاهيه حب، أذكر أني كنت صغيرة جدا وعلى غير عادة الأطفال حولي كنت أصر أن يكون عشائي ساندويتش فول في عيش بلدي "مأمر".
كانت والدتي وجدتي تزداد عصبيتهما حينما أصر على ألا آكل إلا الفول، ويستغربان أن تحب طفلة في الخامسة من عمرها تقريبا هذا "الفول" لهذه الدرجة، لكن بابا كان يتفهم حبي له ويتدخل بيني وبين ماما وجدتي حين أبكي لأني لا أريد أن آكل إلا فول بينما يرفضان، فيقترح بابا أن يعد لي هو بنفسه ساندويتش فول "مخصوص" كما كان يسميه.
ينزل بابا بنفسه ليشتري الفول من محل في شارع "مسرة" وسط تذمر ماما وتعجب جدتي من رضوخه لمزاجي الغريب على طفلة .
كان يعد لي ساندويتش(فول) مميز بالفعل، لا بد أن يكون الخبز بلدي(مأمر) على النار و"محَرْمش" واجعله يقسم ألا يضع به السمن البلدي الذي لا نستعمل غيره للفول عادة فيقسم، ثم يضع السمن البلدي دون أن أعرف (كما اعترف لي لاحقا) ويقوم بتتبيله بالكمون والملح و(الدقة) بضم الدال وكانت تعدها لنا عمتى الكبرى من مطحون اللوز والبندق والسمسم والزعتر وبذر المشمش بمقدار محدد وبعض البهار السري وكان صنفا هي مشهورة به.
وحين كبرت وصرت في فترة المراهقة كانت ماما تنهرني كثيرا لأنني لا آكل غالبا إلا الفول إذا ما تواجد حتى لو كان بجانبه ديك رومي، فكان يتم منعه خصوصا في رمضان لأني لا أعادله بشيء مهما كان.
كانت ماما لا تحب الفول وتشعر أن به بعض (الشعبية) التي لا تستحق هذا العناء والحفاوة التي يعامله بها أبي من أجل عينيا، لكن بابا كان يتعاطف معي فيتركني آكله وهو يضحك.
أما الطعمية فلم يكن بيني وبينها عمار.
ومن منا يستطيع أن ينسى الدور الخالد لعلي الشريف والذي منذ رأيته في فيلم "الأرض" وهو يأكل الطعمية السخنة بيديه ويتوسل لأخيه "محمد أفندي" لكي يعطيه "قرشا" ليشتري قرص طعمية، ساعتها أصبت بنفور شديد، لأن العملاق علي الشريف طيب الله ثراه كان مظهره رثا لدرجة مرعبة لطفلة في الخامسة تقريبا.
ظللت هكذا حتى بدأت منذ أعوام قليلة أتعرف على "الطعمية" وكنت لا أقربها إطلاقا مهما كانت رائحتها شهية. كان ذلك حتى اكتشفت حلاوة الطعمية وجمال الطعمية وخفة دم الطعمية خصوصا أني بدأت أعدها في البيت وأزودها بالشطة والكثير من السمسم وبعض "البيكينج باودر" والبيض "وأحيانا أحشيها جبنة كيري" ثم أضع لها زيتا ذهبيا نقيا فتنتفش وينتفخ صدرها مزهوا كفتاة في مطلع الصبا، و"تلعلع" رائحتها مع الخبز البلدي الساخن والسلطة والطحينة
وأنزل "حتتك بتتك" أنا ولي لي بنتي إذ لا يحبها سوانا في الحقيقة.
لذا كنت في غاية السعادة عندما أطلق علينا اخواتنا في الخليج نحن المصريين لقب "طعمية" وشعرت بالفخر والإطراء وكأنهم يغازلوننا لا يعايروننا "كما يعتقدون".
والحقيقة أننا اخترنا لهم هم أيضا اسما على مسمى "كبسة"! 😃
ومفيش حد أحسن من حد، خصوصا لما اكتشفت ان مطربة خليجية مشهورة بسلاطة اللسان والتفاخر بالمجوهرات وتذكرني دوما بقارون موسى،
المهم المطربة دي رغم جمال صوتها وغرابة ما فعلته بشكلها من عمليات تجميل عجائبية، فوجئت بها تكيل السباب لبنت من اخواتنا الشوام وتقول لها "بس يا تومية روحي إعملي لي ساندويتش شاورما"
طبعا أنا فرحت أوي للبنت الشامية التومية الحلوة الطعمة التي استطاعت أن تنال من تلك المغرورة الجوفاء وأن تستدرجها لتظهر للناس كيف أنها وصلت لأسفل سافلين لمجرد أن البنت تناصر القضية الفلسطينية..!
المهم يعني.
مالها الطعمية ومالهم هم والطعمية، ثم ماذا يعرفون عن الطعمية وهي أكلة المصري منذ آلاف السنين، نعم يا جماعة كنا موجودين هنا قبل آلاف السنين لسنا أولاد امبارح، كانت لنا دولة وقوانين وجيوش جرارة وعلوم وحياة كاملة ودولة مازالت آثارها موجودة ومازالوا يسرقونها ومازلنا أثرياء رغم ما سرقوه منا وتراب بلادنا كنوز إنسانية لا نفطية ومازالت اكتشافاتنا تثير دهشة العالم ولدينا مزيد.
وكنا حينئذ نأكلها، نعم كنا نأكل الطعمية لذا نشعر بود شديد نحوها، فما أجمل لونها الأخضر قبل التسوية وما أشيك وأشهى لونها الذهبي المائل للبني وفوقها السمسم يزغرد والكسبرة ترقص على وجه القرص اللطيف الظريف المقرمش من بره واللين من جوه، ونضع بجانبها شرائح طماطم وخيار "حياقها" معمول بحرفية، وربما بعض الجزر و الخيار المخلل والفلفل المقلي الغارق في تتبيلته، تخيلوا الألوان، تخيلوا الطعم والرائحة !
الطعمية فلسفة شعب عريق يستطيع أن يصنع ميكسات عجيبة شهية غنية رغم الهموم وضيق ذات اليد، فيطحنها ويشملها بالدلع وخفة الظل المصرية الشهيرة، يعني حتى أكلاتنا دمها خفيف وبنت بلد، وهكذا تصير الطعمية شيئا خرافيا اسمه(الطعمية).
ساندويتش يأكله الفقير صباحا ليتحايل به على الفقر ويسعى وراء لقمة العيش حتى العصر وربما للمساء فيصمد قرص الطعمية في معدته الطيبة دون أن يقرصها الجوع.
ويأكلها الغني فيشعر بالانتشاء معتقدا أنه يشارك ملح الأرض من الطبقات المكافحة نمط حياته
، ويحيي "الفولكلور" المصري وينسى الكرواسون والباتيه واللاتيه وكل ما من شأنه أن "يموّع" النفس صباحا ويمتلئ بالجلوتين الضار، ثم يحبس بعدها بكوب شاي بالنعناع.. يااااه مُلك والله يا جماعة، مُلك منظمه سيده.
يكفي أن الطعمية وأخاها الفول صارا يقدمان في أفخم فنادق العالم على أنهما "أورينتال بريكفاست" والحقيقة هما "إيجيبشن بريكفاست"، نعم، نحن شعب الطعمية..ونفتخر.
مصرية وافتخر ..