لم يكن لدينا في شبرا طقوسا عادية في رمضان، كان الوضع جد مختلفا لأن بيوت الحي كانت تتضافر بشكل خرافي واوتوماتيكي لإرسال الطعام لأهل الحي من الفقراء، المعروفين بالاسم وبالتفاصيل.
وكان الشارع الواحد بل البيت الواحد به الثري والمتوسط والفقير بدون حدود ولا كومباوندات ولا اسوار.
وفي تمام الساعة الخامسة قبيل آذان المغرب كان يمر "عم زكي" صاحبة "عربة الفول والبليلة" ليوزع على زبائنه الذين يعرفهم بالاسم والتفاصيل.
عم زكي رجل مسيحي ضخم الجثة طيب القلب يقدس عمله ويبجل الشهر الكريم فيصنع لأجل عيون الصائمين أشهى فول يمكن تذوقه وأطعم "بليلة" يحملها في قدور فضية لامعة على عربته التي يجرها بنفسه، له صوت رخيم ينادي به على زبائنه ليستعدوا ويحضروا له "حلل" صغيرة مخصصة للفول وحلل أخرى للبليلة.
وكانت جدتي ترفض أن تشتري الفول إلا من زكي الذي اشتهر بنظافته وأمانته فكانت ترسل "فهيمة" السيدة التي كانت تشتري لها الطلبات، ترسل فهيمة لتشتري منه.
وأما بعد المغرب فقد كان الشباب يتجمعون بعد التراويح ليبدأوا الدورات الرمضانية التي تمتد قرب الفجر والشارع ممتلىء عن آخره بالشباب من باقي الأحياء المجاورة،
حيث كان فريق شارعنا صاحب أمهر لاعبين"فريق لولو وطارق وعصام صاصا ابن طانط زوزو صديقة جدتي، تلك السيدة ذات الشعر الأحمر والجمال الملكي والرقي المتناهي غير المتناسب مع ابنها الأصغر عصام الذي كان يكره الدراسة رغم ان اخوته أطباء ومهندسون ويمضي جل وقته في الشارع مع الشلة".
وفي تمام التاسعة والنصف مساء وبعد أن تنتهي فوازير شريهان ويبدأ المسلسل العربي "مسلسل واحد" كان كفيلا بأن يجلس الوطن العربي جله في بيته ليشاهده.
حينها يمر عم "علي" بتاع الايس كريم وكان ينادي بصوته الرفيع المميز "عليييييييي اللي ياكل منه يسكر" نجري انا واخي ايهاب نتسابق على سلم البيت لنصل لعم علي الذي يسير بطيئا بعربته البيضاء النظيفة الأنيقة الملحق بها "عجلة".
وكان هذا الايس كريم هو اطعم والذ واحلى ايس كريم ممكن تتذوقه في حياتك ولا يمكن أن أنسى العربة البيضاء الملونة بالأزرق والبينك وعليها صور الفواكه مانجو وفراولة وموز وبدلة عم علي البيضاء في لون الفل وسمرته ووجهه البشوش إذ كان من أهل اسوان الطيبين وهو يعطيني بحنو بالغ انا واخي اتنين ايس كريم مانجو وفراولة.
أقسم لك يا جماعة أنني للآن لم أجد أشهى منه، كان عبارة عن فاكهة حقيقية في شكل ايس كريم.
أما في بيت جدتي، فقد كان هناك خليط من أشهى الروائح حيث تنسجم الأصوات مع الأطعمة مع الحلويات ورائحة الجو تمتلىء بشوربة البط بالحبهان والمحشي والرقاق وطشة الملوخية وابتهالات اذاعة البرنامج العام بصوت الشيخ سيد "النخشبنجي" بتعطيش الجيم كما كانت تدعوه جدتي حيث كان صديقا لجدي وكان يأتي لزيارتهم في ستينيات القرن الماضي.
تضع جدتي على المائدة "مفارش صغيرة شغلتها بيديها وقد كتبت عليها حرفين بالانجليزية هما حرفا اسمها واسم جدي" E R" أي عز الدين ورئيفة، لا أنسى لون المفارش ولا الحرفين الجميلين كصاحبيهما.
تمر الأيام ويموت الأحباب ونتذوق اليتم بطعمه المرير الغريب حين تكون قد نسيت الموت لفرط التصاقك بأمك وأبيك حتى تعتقد أنهما خالدان لا يموتا أبدا، ولا تجري عليهما المقادير كما باقي الناس، فالملائكة لا تموت.
أتذكر ماما وهي تصنع أشهى طعام بطقوس لا نهائية من الجمال والأناقة والكرم الحاتمي، تعرف كل منا ماذا يحب وماذا يكره وماذا يفضل، ولا يخرج أحد منا من بيتها إلا محملا بما لذ وطاب من خيراتها،
حقائبها الأنيقة المميزة "سينييه" التي تميزت بها ويحكي عن أناقتها ستات العيلة، تلك التي لا تخلو من المال والتفاصيل "الهوانم" الجميلة، مازالت في دولابي إحدى تلك الحقائب بتفاصيلها، وقد دسست قلبي فيها ليشم رائحة برفانها الذي مازال للآن يداعب أنفي والله أعرفه فيها.
أتذكر أبي وهو يصنع لي في رمضان " أنا بالذات" كنافة بالموز لا مثيل لها لأنه يعرف أني أعشق الكنافة، ينهرني إذا أكلت منها قطعة صغيرة ويقسم أن يضربني لو لم آكل كما ينبغي، رغم اني كبرت وصرت أما وصار هو ابي وأبو أبنائي أيضا، يحبهم حبا غريبا وحين أغار وأسأله كيف تحبهم أكثر مني يقول " تعلمين ماذا قال شوقي بك حين سألوه عن حبه العظيم لأحفاده؟ قال: أنجبتهم مرتين".
اللي عنده أب وأم يحضنهم ويقفش فيهم، سيدنا النبي قال "رغم أنف، ثم رغم أنف، ثم رغم أنف رجلٍ أدرك والديه، أحدهما أو كلاهما، لم يدخلاه الجنة"
واللي عنده عيلة ربنا يبارك له فيها
واللي عنده حبيب يعمل معاه ذكريات حلوة،
الذكريات مخزون دفاعي استراتيجي يحمي الإنسان طول حياته.
كل عام وانتم وسط حبايبكم متهنيين ويزيدكم من فضله ولا يغير عليكم إلا لأفضل حال ورمضان كريم اللهم أهله علينا بالأمن والإيمان والسلامة والإسلام هلال رشد وخير.
رمضان كريم