حين اقتربت من ميدان جهينة المؤدي لمدينة السادس من أكتوبر ، يضيق الطريق لوجود بعض الإنشاءات السكنية على يسار الطريق..
كان الجو باردا لدرجة موجعة والأمطار تهطل في صباح باكر لم تزاوره الشمس بعد، وحين أضاءت الإشارة باللون الأخضر همّت بالعبور فتاة ترتدي جلبابا أخضر اللون مهوّم بالأسود وتلف رأسها بشال رمادي كبير لا يظهر سوى عينيها و طرف أنفها.
كانت سيارتي هي الأقرب وكانت الفتاة تدفع أمامها "عربة لنقل الأسمنت" وتشمر عن جلبابها ليظهر "بنطلون لم ألمح لونه" لأني كنت أدقق النظر في وجهها وهي تنظر ناحية السيارات بثبات وتعبر بتؤدة، السيارات تطلق أبواقها بدون صبر لاستعجالها والفتاة تسير بتؤدة.
يا الله، لونها، لها لون جميل تلك الفتاة، كانت بيضاء لوّحتها الشمس، أرى يديها المشمرتين عن سواعد تناوىء الرجال، وهي بالطبع جميلة، تخفي وجهها - غالبا - نظرا لعملها الغريب في مجال المعمار، وجسدها النحيف المفرود يشي بفتاة لم تتزوج، ممتشق رغم صعوبة المهنة، وربما أجبرته المهنة وضيق الحال على ارتداء تلك الأسمال
كانت كأنها تستفز السيارات بمشيتها البطيئة، كأنها تلومهم وتدينهم، لذا لم تستفزني، كنت أبتسم لها رغم انها أشاحت بوجهها سريعا عني وعبرتني ببرود وأنا أكاد ألمح في عينيها نظرة بؤس تخفيها،
ربما لم يهبني ربي أي ملمح من ذكاء، ولكني أظنه وهبني قلبا أرى به الناس، أراهم من الداخل، أراهم غصبا عني، أرى جمالهم المفقود، أو المعتدى عليه بقسوة !
وتساءلت وأنا مغتمة حقا، منذ متى تنزل الفتيات مجال المعمار الشاق القاسي في هذا البرد القارص، وما الذي أجبرها على هذا العمل ومثلها أو " أقل " يقررن في بيوت فارهة، هذه قسوة غير مبررة، كيف تتعامل مع زملائها من الرجال، وما أدراكم ما الرجال في أي مجال،
وسرحت كعادتي اثناء القيادة، فيما جرت به المقادير في الأعوام الأخيرة،
لقد تغير المجتمع يا رفاق، فالنساء كثيرات منهن يقمن بأدوار الأب والزوج والابن ودخلن كل المجالات مجبرات في كثير من الأحيان، فنجد سائقة التاكسي والميكروباص وميكانيكا السيارات وحاملة الأنابيب بطلات وأبطال، رجال ونساء مغمورون يدورون في دوامة الحياة ويلعبون ربما كل الأدوار ببراعة واستسلام، لا يشعر بمعاركهم أحد،
وياما في المجتمع مغامير،
وكثيرات أيضا للأسف يخلدن للدعة والثرثرة يمضغن التفاهة ويتابعن "ياسمين عز" ويستيقظن عصرا تاركات أطفالا هم قنابل موقوتة،
وتذكرت شوقي بك حين قال
"ليس اليتيم من انتهى أبواه من همّ الحياة وخلفاه ذليلا،
"إن اليتيم هو الذي تُلقى له أُمّا تخلّت أو أبًا معلولا"
والأب المعلول هو الذي ترك عياله عيلةً دون رعاية مادية ومعنوية.
عدت للمشهد الذي أمامي، لتلك الفتاة، كيف تحمل الأسمنت والرمل على كتفيها الرقيقتين،
هل تحلم؟ بماذا تحلم؟ ببيت وزوج يحمل معها همومها ويقتسما معا الشقاء فيحلو لهما مراره؟؟
هل تحلم بطفل تحمله في بطنها؟ أم انهار سقف طموحاتها واكتفت بإعالة أشقاء صغار يملكون أفواها لا تسد، في حين يجلس أبوها وأخوها يدخنان السجائر بشراهة ويتابعن النساء الشغيلة !!
التفت مرة أخرى جهة المبني تحت الإنشاء ودققت النظر، فوجدت أكثر من فتاة يعملن في الموقع، لله الأمر.
حدث بالفعل !
دينا عاصم
دينا سعيد عاصم