أنتظر الشتاء دوما بثقافته الرومانسية الغامضة، التي لا يشعر بها أهل الصيف ببساطته وانطلاقه،
في تلك الايام، اتذكر فريد وهو يشدو "وادي الشتا يا طول لياليه على اللي فاته حبيبه يناجي طيفه ويناديه ويشكي للكون تعذيبه،" واوقن ان تلك الاغنية هي التي تدوزن الفصول عندي،،
تفاجئني صورة سامية جمال بالفوريور الرائع وهي تخلعه وتتمايل بقدها الخمري الميّاس المنحوت بإبداع رباني على انغام فريد الخالدة، وعلى وجهها أمارات الحزن بوجنتيها "الكلثوميتين"، كانتا لا تعجبان ماما تقول(دمها ثقيل) ولكن بابا كان من المعجبين طبعا !
في خضم تلك الخيالات الجميلة لزمان ولى لكنه مازال يعيش في، وفي كل صباح شتوي غائم
أوقد الفرن بعد صلاة الفجر مباشرة لتنضج فطائري على مهل أو ربما أضع الخبز البلدي على نار هادئة شعلتها ضئيلة جدا، لهبها حالم وتحته أضع(شياطة) ليتم تحميسه الهوينى، كقلب يشتعل بالغرام ولا يقوى على الإفصاح إلا بكلمات قليلة بين حين وآخر، أضع على خده الجميل مسحة من الجبن الأبيض الحراق و"راق من القشدة،" او شريحة جبن شيدر بالفلفل الاخضر فتختلط رائحة الخبز بالقشدة او الجبن ويمتزجا ليصبحا كيانا واحدا منصهرا في ذاته اذ تسيح القشدة او الشيدر على وجهه المحمرّ لفرط سخونته.
أعد أكواب الشاي باللبن أو النسكافيه للبنات،، أضع فقط (التلقيمة) لا أضع اللبن أو الشاي إلا قرب استيقاظهن حتى لا يبرد،،،،
إذ لا بد أن يكون اللبن مغليا ساخنا جدا وأن يكون الشاي ثقيلا لتنتشر الرائحة وتعطيه لونا يميل للكاراميل الفاتح أو الغامق حسبما تفضله كل بنت
ترن الملعقة رنات قليلة احتراما لهذا الهدوء الجميل الذي لا ينبغي أن يخدشه صوت،
البنات يستغربن استيقاظي المبكر في عز البرد، فالبرد يجعلهن ينكمشن تحت الأغطية الدافئة، يأتين إلى سريري ليكملن نومهن بإغفاءة صباحية تمتد ريثما أنتهي من تجهيز الفطار يوم إجازتي، أوقن أن للحب رائحة مميزة نتلمسها في أحبتنا،
فإذا ما أحببت شخصا فإن أول ما يلفتني له رائحته، اظل أتلمسها وأعرفها من أول مرة، أحبها وأفهم كيمياء جسده من خلالها،، فأنا حين أحتضن الولاد أستمتع برائحة الشعر،، الرقبة، أنفي بالضبط كأنف جرو صغير (نمشيها بوبي)????
بالضبط كما كنت أفعل مع ماما حين كنت أتدفأ في سريرها برائحته الحلوة المميزة التي اختلطت فيها رائحة الداوني والشامبو الخاص بها و"روبها " الفرو الشتوي ذي اللون السماوي الذي حرصت ان ترتديه في شتائها الأخير قبيل رحيلها بأسابيع قليلة، كان الروب لون السماء متفرق عليه قطع سحاب أبيض ترتديه على بيجاما أنيقة جدا تليق بلونه، فتصير ملاكا آتيا من عوالم أخرى، كم.كان ذلك موحيا ولكني لم أنتبه، لم أنتبه إطلاقا !
لم يكن يحلو لي النوم إلا بسريرهما خاصة حين أزورهما في إجازتي اثناء صباحات شتوية، فتصر أن أكمل نومي بجانبهما وتجرني جرا فأنجر مستسلمة لمخدر الحنان والرائحة الجميلة لملابسها وحجرة نومها، التفت لها وأمسك بذراعها أدفن وجهي أشمشم فيها مثل (البوبي) فتقول لأبي بلهجة عاتبة آمرة لا تخلو من حب وعشم "قوم يا سعيد حضر لبنتك الفطار" يترك باب صحيفته الأثيرة فأتوسل له أن يبقى لأني بالفعل أفطرت لكنه يصر قائلا "هاعمل لك فطار معتبر"
أتذكر لينة بنتي وهي تنام محتضنة "إسدال الصلاة الخاص بي" بدلا مني حين أغادر سريري أو حين أذهب لعملي، فأتمتم "ذرية بعضها من بعض"
ويثير في هذا الطقس البارد الحميمي شهيتي للوقوف في المطبخ بجوار نافذتي المطلة على الجامع، النافذة التي تشهد دعائي اليومي وحديثي لربي، الراديو الصغير ذو الشكل القديم المميز، أضعه على "رخامة" المطبخ ينبعث منه قرآن الفجر خافتا لا يسمعه سواي، صوته غالبا للشيخ محمد رفعت يرفعني معه لسمواته
وحين تنتهي الوصلة القرآنية حوالي السابعة، أحول الدفة لإذاعة الأغاني، وأنا أستعد لإخراج فطائري الذهبية فيأتيني صوت نجاة وهي تقول "لا العاشق مرتاح ولا الخالي مرتاح" فأتنهد لتلك المؤامرة الصباحية المرسلة عبر صوت نجاة الدافىء الرخيم فأهمس لها "ماشي يا ستي فهمنا خلاص"
ومرة تشدو بلؤم قائلة (باحلم واغني لحبيبي وفين حبيبي، ماليش حبابب يا عيني وأنا ونصيبي،)،
تبا لك أيتها المتآمرة الجميلة، تضحكني المفارقة، لكنها تنهي جملتها بأمل حلو مملوء بالإغراء الغامض تقول فيه (يمكن زماني يصالحني بعد العداوة،)
حينها تستيقظ القطط يعجبهن جو المطبخ بعد ان أدفئته سخونة الفرن ياتين الواحدة تلو الأخرى"احضنيني يا ماما" فأحتضنهن وأمطرهن بقبلاتي يسترخين ويتحلقن حول مائدة المطبخ الرخامية العالية يجلسن مستسلمات لوشوشة الأغاني الصباحية في انتظار جرعة الدفء الجميل من كوبايات الحب والشاي والنسكافيه.
فأدندن معهن (يمكن زماني يصالحني بعد العداوة !)
دينا عاصم