لطالما كان لكل شخص منا نسخة قديمة لا يطلع عليها أحد إلا إذا كان مقربا جدا من "روحه"، شخص له نفس المزاج ويحب نفس الأشياء التي يحبها، ويميل لنفس الألوان، نفس ذوق الملابس، شكل البيوت، التفاصيل، حتى الهزار والكلمات التي تستوقفه ، "الإفيهات" التي تضحكه، شخص يسكنك كالعفاريت.
ولطالما حلمت ببيت تكون أرضيته من البلاط الملون الذي ازدانت به بيوتنا القديمة، دوما يكون البلاط"الأرضية" خالدة في ذاكرة طفولتنا برسوماته وألوانه، كنداء خفي وحنين لأيام الطفولة.
هذا البلاط الملون برسومات هندسية عصية على التقليد، لا ينافسه سيراميك ولا بورسلين، تلك المواد الباردة عديمة القلب، لا ينافسه ربما إلا الباركيه الذي انفردت به حجرات النوم في ماضينا الجميل وبيوت أهالينا.
حين كنت أوثث بيتي تمنيت كثيرا أن أضع بلاطا ملونا بدلا من البورسلين والسيراميك، عندما أسررت برغبتي تلك لم يأخذني أحد على محمل الجد سوى صديقتي " أ " وجدتي، التي لا أنسى أن بيتها الذي نشأت فيه في حي " شبرا " كان به بلاط فيروزي اللون غاية في الجمال تزينه عروق بنية رفيعة متناثرة، كأنها شرايين تمتد من الأرض لقلوبنا.
ومرت الأيام وتزوجنا وكنت لا اطيق الانتظار لأرى بيت " أ " العفريتة التي سكنتني.
عندما زرت " أ " انبهرت ببيتها فقد كان حالما مثلها، مثلي، يشبهنا كثيرا، فقد كانت هي أيضا تشبهني كثيرا، تكتب الشعر مثلي، نضحك بصوت عال في جلساتنا السرية، على سذاجتنا وأفكارنا المتشابهة، المعاني السرية لبعض الكلمات والتي لا يفهمها سوانا فننفجر بالضحك في حين ينظر لنا الجميع باستغراب.
في فترة الجامعة ومازالت حتى الآن رغم أنها الآن منتقبة ملتزمة التزاما يخطف القلب، لكنه لم يخطف عقلي، قلبي فقط مع" أ " وكفى به،
إلا أنها مازالت تحتفظ لي بطفولتنا وبدايات صبانا حين كنا بالسابعة عشرة في أولى سنوات الجامعة، انطلاقنا وملابسنا التي تشابهت واقراطنا الفضية التي كانت كل واحدة منا تلبس منها "فردة" واحدة كأننا توأم.
مازالت " أ " تحتفظ لي بأغانينا في "باص الجامعة"
، " أ " التي يراها الناس بنقابها، تظهر معي بشكل آخر وأظهر معها بشكلي الحقيقي، تخبىء لي نسختها القديمة ولا تطلع عليها سواي، كما لا أطلع سواها على أسراري القلبية، ولا غرابة فقد كانت هي أيضا جارتي في شبرا، بعد الزواج سكنت أنا مدينة نصر وسكنت هي بالدقي.
بيت " أ " بالدقي، في شارع راق عتيق عريق، بناية قديمة محترمة، اختارت" أ " ستائره شفافة مزدانة بورود ليلكية، وأثاث عتيق وأما "مطبخ أ " فإن لنا فيه أوقاتا عصية على النسيان، بلاطه شد بصري من أول لقاء وقبل أن أفتح فمي، قالت لي "كنت واثقة أنه سيعجبك، لذا لم ولن أغيره" يعجبني أنا أيضا، احتفظت لك بهذا البلاط، حاول زوجي أن نغيره لكني رفضت، احببته وخمنت أنك ستحبينه مثلي.
تعرف " أ " أن بقلبي الكثير لا أطلع سواها عليه، كما تطلعني أنا فقط على نسختها القديمة المؤثثة ببلاط ملون وأغان حالمة وستائر ليلكية، وتنورات قصيرة، وانطلاق لا يوقفه شيء.