حين دخلت كلية الألسن لم اكن سعيدة رغم انها من كليات القمة، شعرت اني سأبتعد عن اللغة العربية التي أشعر أنها لغة روحي، أحببتها قبل أن اتعلم الكتابة والقراءة.ولا استطيع ان انسى الكلمة الوحيدة التي اعجزتني عن قراءتها على اللافتات فاضطررت وانا دون الخامسة ان اسال والدي كيف ننطقها(مارلبورو) كانت بالفعل كلمة طويلة صعبة النطق على طفل صغير وطبعت في ذاكرتي كاول تحد يواجهني! حبيت شكل الحروف لدرجة كنت باركب جنب بابا العربية في سن صغيرة جدا لدرجة كنت اشب لأطول الشباك وافضل اساله على اسماء المحلات واللافتات وكان يجيب بصبر عجيب حتى تعلمت شكل الحروف وربطتها بنطقها فاتقنت القراءة قبل دخولي المدرسة في واقعة كان ابي يتفاخر بها، في اولى ابتدائي كانت معلمة اللغة العربية مسيحية، (ميس عايدة) رحمها الله تتركني أمر على كل تلميذ ليقرا جملة من الدرس وأصححها له إذا أخطأ وتجلس هي لتصحيح(الواجب).كنت احفظ كل ما تقع عليه عيناي أو تسمعه اذناي بشكل غريب، وفي يوم الجمعة، في بيت جدتي بشبرا، تأتي، (الشيخة زبيدة) لتقرا ما تيسر من القرآن، كانت سيدة عجوز بيضاء جميلة ترتدي فستانا اسود مفتوحا من الصدر وتظهر تحته دوما جلابيات ملونة اخضر او ازرق وعلى راسها طرحة سوداء تعصبها بشدة على راسها فيبدو وجهها المتغضن جميلا منيرا بياضه رائق.اجلس بجانبها صامتة كالتمثال استمع للقرآن واحيانا اتمايل مع تمايلها وبرغم سني الصغيرة جدا (حوالي ثلاث او اربع سنوات) كنت اتمتم معها فتسألني هل تحفظينها؟ فأجيبها كلا ولكنك ترددينها كثيرا فحفظتها.وكلما تقدم بي الوقت شعرت بحبها يتغلغل بروحي. كنت اكل كتب والدي اكلا رغم اني لا افهم ما اقرأ لصغر سني،وكان الراديو منفذا لروحي، يترك العنان لخيالي اكثر من التليفزيون الذي يحدده بصورة او مشهد يحبسني فيه، استمعت منه لطوبار والنقشبندي والمنشاوي ورفعت ومصطفى اسماعيل وعبدالحليم وفريد ووردة ونجاة ومحرم وعمرو ومنير وأنغام صارت اللغة حياتي، اكتبها وتكتبني بفصاحة وكثيرا ما اعجز عن الكلام، فألجأ للكتابة، (إلا في الأشهر الأخيرة، وجدت لغتي عاجزة عن وصف ما أشعر به، للمرة الاولى بحياتي، )طبعا أحببت اللغة الألمانية حين انتبهت للأدب الألماني وكتبت اول قصة قصيرة لي بالألمانية وانا في ثانية جامعة ففازت بالجائزة الاولى من معهد جوته وكان اسمها Die Jenigen, die in der falschen Zeit kommenاو (هؤلاء الذين يأتون في الزمن الخطأ)واتاني بالجائزة حتى الجامعة البروفيسور (زاور Zauer) ومعه نشوة صديقتي وهو يكاد يطير بي من الفرح.تمنيت طوال عمري ان اجيد اللغة المصرية القديمة وحين سمعت انشودة ايزيس طار قلبي وراءها مثل كل المصريين، وتمنيت ان اجيدها في يوم ما لأني شعرت بها متوغلة في روحي كاللغة العربية. كأن يقتحمك فجأة شخص غريب وتكتشف انه ليس غريبا بل قريب، قريب جدا لدرجة انك تحتضنه بألفة لا تليق بلقاء أول ولكنك تحتضنه دون وجل، تحتضنه بخجل مشوب برضا تام عما يحدث،، كأن احتضنته روحك ووقع منك موقعا لم يدانيه بشر قبله، هكذا اللغة المصرية، وهكذا الحب !النهاردة اليوم العالمي اللغة العربية، اقول لك ايه، انت حبيبتي، اول صلة لي بالعالم، كل عام وانت لغتي لغة القرآن، لغة العرب، لغة المصريين، وأنا، لطالما كنت اتيه بمصريتي وعروبتي وافريقيتي، ولكن، ظللت انت ايتها الجميلة، لغة روحي. يا روحي أنت.