كنت أستمع للإذاعة المصرية وأنا صغير بشغف كبير، وكنت أنصت إلى حكاية "عواد" الذي باع أرضه، وكان سياق القصة الرمزية أن "عواد" فرط في أرضه وباعها، والغريب أن القصة تحكي بأن "عواد" أفلس بعد مصاحبته "للغزيَّة" واضطره هذا لبيع الأرض كي يسدد ديونه، ثم تأتي والدته وأقاربه ليستعيدوا الأرض التي ضاعت، وبهذا السياق استقر في وجدان كل مصري تابَع القصة الرمزية، أن بيع الأرض -أيًّا كان- هو عارٌ ودمار وتفريطٌ عظيم، وأصبح "عواد" فزاعة لكثيرين وأولهم الحكومات المصرية المتعاقبة.
ومن الغريب العجيب أن بيع الأرض-أي أرض- يحدث كل يوم عشرات المئات من المرات، وتعج المحاكم بدعاوَى صحة التوقيع على عقود بيع الأراضي التي يتداولها الناس بيعا وشراءً.
والأغرب من ذلك والأعجب، أنه وبمجرد أن تُقدِم الحكومة على بيع الأراضي بأهداف استثمارية كبيرة لصالح المواطن -مُمَثلا في الدولة- إلا ونجد الممانعة والاعتراض على تلك الخطوة، دون دراسة للأهداف المحققة من هذا البيع، وماهية مضمون تعاقدات البيع من حيث أنها شراكات استثمار أم أنها مجرد بيع للصرف دون تنمية،
فمثلًا من تلك الأهداف المفيدة للوطن والمواطن، جذب الاستثمارات الأجنبية لتعزيز الاحتياطي من النقد الأجنبي وتوفيره، وأيضًا تشغيل العمالة وتقليل البطالة، وأيضًا استثمار الأصول الثابتة المتروكة والتي تم إهمالها دون تنمية لمئات السنين، وحين تنجح الحكومة في تسويق هذه الأراضي بطرق البيع "بشراكة عقارية" يكون لمصر فيها حصة من الناتج النهائي من الوحدات المنتَجَة، وحين تنجح في جعل الاقتصاد المصري ينشط في مجال التصنيع لمستلزمات القطاع العقاري كنتيجة لتلك الشراكة الاستثمارية مع رأس المال الأجنبي، ليتم تشغيل مصانع الحديد والأسمنت والخرسانة الجاهزة والبلوك ومواد التشطيبات، والتي تصل إلى أكثر من ثلاثمائة عنصر إنشائي ومعماري، مما يحرك اقتصاد الدوله بشكل قوي جدًا، وباستثمارات أجنبية،
حين تنجح الحكومة في كل ذلك نفاجأ بأن البعض يرفع في وجهها مقولة "عواد باع أرضه" في مقارنه ظالمة ومغرضة، تبين لكل واعٍ ولكل رجل من يفهم القليل في قطاع الأعمال، أن المطلوب هو إيقاف عجلة التنمية في هذا الوطن، كما لو كان جذب الاستثمارات الأجنبية هو شيء مشين، مثلما كانت تغني الفنانة الراحلة "شادية" رحمة الله عليها في عهود سابقة للأطفال، في اغنيتها الشهيرة حين تقول: "طب قلنا الثعلب إسمه إيه"، فيرُد الأطفال ويقولوا: "الاستعمار، الاستغلال ورأس المال"، كما لو كان رأس المال هو مماثل للاستغلال وللاستعمار، كما كان في زمنٍ له محدداته وضوابطه ومعايره التي تختلف تمامًا عما نحن عليه اليوم.
علينا إخراج قصة هذا "العواد" الدفينة داخلنا، والتي هي موروث يقبع في أعماقنا، وعلينا أن نقتنع بأن لكل زمنٍ ضوابط تختلف بحسب العلاقات الدولية والمتغيرات الاقتصادية المتعددة الاتجاهات، والتي يجب أن تجعلنا اليوم فخورين جدًا بأننا نتشارك مع رأس المال الأجنبي بعقود شراكة لتطوير الأراضي الغير مستثمرة، لصالح اقتصاد هذا الوطن وأبنائه.








































