في عالمٍ تتزاحم فيه الأصوات، وتتشابه فيه الكلمات حتى تكاد تفقد معناها، تبقى الكتابة الفعل الوحيد الذي لا يمكن أن يكون محايدًا. فالكتابة ليست ملء فراغ، ولا تسلية عابرة، ولا رفاهية يمارسها من يملك فائضًا من الوقت. الكتابة موقف، والموقف التزام. وحين يختار الكاتب أن يضع كلمته على الورق، فإنه في الحقيقة يضع جزءًا من ذاته، ويكشف ملامح رؤيته، ويمارس مسؤوليته تجاه الحقيقة وتجاه العالم.
الكاتبُ الذي يرى الكتابة مجرّد حرفة أو تزيين لغوي سيكتب كلامًا جميلًا لكنه فارغ، براقًا لكنه بلا جذور. أما الذي يدرك أنها موقف، فإنه يكتب بضميره قبل قلمه، ويصون الفكرة قبل الجملة. الكتابة هنا ليست مجرد صياغة، بل شهادة. شهادة على ما يحدث، على ما نحسّه، على ما نرفضه وما نحلم به. والكاتب الملتزم ليس ذلك الذي يتبنى قضايا كبرى بصوت عالٍ، بل الذي يكتب بما يتوافق مع الحقيقة التي يعرفها في داخله، حتى لو كانت جملة صغيرة، أو مقطعًا خافتًا، أو فكرة لا يوافقه عليها أحد. وفي الوقت نفسه، قد يكون الالتزام أقل وضوحًا في بعض النصوص، مثل الشعر الغزلي أو القصة الفانتازية، لكنه موجود في احترام الجوهر الإنساني، في جمال اللغة، أو في قدرة النص على لمس روح القارئ بشكل خفي، بعيد عن المظاهر المباشرة.
ومن يكتب بوصفه مسؤولًا يعرف أن الكلمة ليست أداة للزينة، بل أداة للتغيير. فكل نص يترك أثرًا في قارئ، وكل أثر يولّد فكرة، وكل فكرة قد تنقلب إلى فعل. والتاريخ لم يَحفظ أصوات السلاح قدر ما حفظ أصوات القلم، لأنه يعرف أن الفكرة أبعد مدى من الرصاصة، وأن الكلمة أطول عمرًا من الحدث. ولذلك كانت الكتابة عبر الزمن شكلًا من أشكال المقاومة: مقاومة للنسيان، للظلم، لتحويل الإنسان إلى مجرد رقم أو ظل، ومقاومة لتدهور اللغة وتشويشها، فالكاتب الملتزم هو حارس للكلمة وللنقاء اللغوي.
الالتزام في الكتابة ليس إلزامًا بالتشدد أو بالصرامة، ولا يعني أن يتحول النص إلى خطاب مباشر أو منشور سياسي. الالتزام الحقيقي هو الأمانة تجاه الذات. أن لا تكتب ما لا تؤمن به، ولا تمتدح ما لا يستحق، ولا تزيّف مشاعرك لتناسب مزاج الجمهور. إن أخطر ما يمكن أن يفعله الكاتب هو أن يُسَخِّر الكلمة لما يتعارض مع ضميره، أو أن يتخلّى عن رأيه من أجل إعجاب الآخرين. فالكتابة التي تُكتب من أجل التصفيق تموت مع انتهاء التصفيق، أما التي تُكتب من أجل الحقيقة فتبقى.
والكتابة التزامٌ تجاه القارئ أيضًا. فالقارئ ليس وعاءً فارغًا نملؤه بما نريد، بل هو عقل وروح تمتد إليهما الكلمة، وتترك أثرًا لا يُمحى. لذلك، فإن كل نصٍ يُنشر هو مسؤولية. مسؤولية أن يكون صادقًا، أن يكون نقيًا، أن يضيف شيئًا، ولو كان بسيطًا، إلى جمال العالم أو وعيه. كما يتحمل الكاتب جزءًا من مسؤولية تأثير كلمته، فقد يحتاج أحيانًا إلى ضبط صياغته ومراقبة تفاعل النص مع القارئ، ليس للرقابة على الفكر، بل لحماية الرسالة من الالتباس. فالكلمة الصادقة لا تُنسى، والكلمة العميقة لا تُستبدل، والكلمة التي تُقال في وقتها الصحيح قد تنقذ أحدهم من هاوية، أو تفتح نافذة لطريق جديد.
ربما يجدر بنا، ككتّاب، أن نتوقف ونسأل أنفسنا:
هل هذه الكلمة تُشبهني؟
هل تعبر عن حقيقتي؟
هل أستطيع أن أقف أمامها دون أن أخجل من ذاتي؟
فالكتابة ليست مهارة تُتقن، بل شجاعة تُمارَس.
شجاعة أن نقول ما يجب أن يُقال، لا ما يريد الآخرون سماعه.
وشجاعة أن نكون أوفياء للكلمة، كما نريد منها أن تكون وفية لنا.
والالتزام لا يتوقف عند هذا الحد، فهو يشمل اللغة نفسها، جمالها ونقاوتها، ومقاومة الانزياحات والتشويهات التي قد تتعرض لها على مر الزمن. الكاتب الملتزم هو حارس للغة، يحميها كما يحمي المعنى.
وفي النهاية، لا شيء يخلّد الإنسان أكثر مما يكتبه بقلبه.
فالكلمات لا تموت… تموت فقط تلك التي لم تُكتب بصدق.









































