يحزّم أمتعته فرِحًا مسرورًا بقرب حِلِّه ببلاد الذهب، التي طال حلمه بها و تحقيقه ها هو قد اقترب.
فكم شاهد مرارًا أكثر من لقطة هنا أو هناك، كلها مفعمة بالسعادة والهناء، لأخٍ يُهادي، أو قريبٍ يزور، أو صديقٍ يمر.
وها هو التاريخ يذكّرهُ بمن كانوا يكبرونه صغيرًا، حين كان يستقبلهم في صالة الوصول في الزمن البعيد،
و الفرحة تتناثر فوق رؤس المترقبين لذويهم بلهفةٍ حين الوصول.
لمع بريق كل ذلك، في مخيلته، واستمر في لملمة حاجياته استعدادًا للرحيل، مبتهجًا منتظرًا جنّة يحلم بأن يمسك بها عبر السفر.
لكن تعادلية الله تعالى أعلى من أن يتميز أحدٌ على آخر، في مجمل محصلة العطاءات، طيلة عمر كل إنسان على خط الزمان، إلا أننا يُمكن وفي توقيتاتٍ معينة، أن نلحظ تميز شخصٍ على آخر، وضعف حالٍ من شخص لآخر، وهذا لا علاقة له بمجمل العطاءات الربانية طوال عمر أي منهما،
ويبقى الخلل في المقارنة اللحظية بين هذا وذاك، حين لا نفطِن إلى أن المقارنة اللحظية هي مبتورة بحكم الجهل بماضي ومستقبل من نقارن أنفسنا معهم، أو نقارنهم مع غيرهم.
وتدور رحى الغربة، وتتلاطم أمواجها لتحتدم شدتها مع جسد الغريب، ويرى فيها ومنها مالم يكن في حسبانه، وما لم يره في أي ممن كان يقارن حالهم لحظيًا بحاله، فتارةً يقع في ضيق ولا يجد له أحدًا بجواره يخفف عنه شيئًا، وأخرى يفقد فيها حبيبًا يسمع عن رحيله للآخرة دون أن يراه، وفقد الحبيب لمن أحبَ عظيمٌ، هذا لمن ذاق وعرف، وبنار ذلك قد اكتوى.
ومراتٍ يكابد لوعة تعامل الناس مع الغريب، حين ينظرون إليه على أنه من غير جذور تلك الأرض وليس نبتةٌ منها، وظلمٍ يكابده دونما قويٌ يساند، أو عادلٌ يساعد، ولسان الحال يصرخ يا غريب لست من ذوي الحقوق حتى تشتكي.
وحين يقرر العودة والرحيل، عن بلادٍ ليس له فيها قريب، تكون أحوال الناس في بلاده قد تغيرت، ومفاهيم العمر التي قد اقتنعها عبر الزمان قد تبخرت، لينظر له أهله وذويه على أنه ليس منهم، وأن زمنه الذي تركه ورحل لم يعد بينهم منه شيئًا موجودًا، وليس له أن يعاملهم بقناعاته الموروثة ولا بها أن يعاملوه.
والألم الكبير ، حين يعود ليبحث عن الحبيب القريب، فيلمس حقيقة فقدانه بواقع العودة، حتى لو كان في غربته بذلك الفقدِ قد عَلِم، هنا يفطن الغريب إلى مالم يفطن إليه من ذي قبل، وما لم يخبره به أحد ممن اغتربوا،
فراح يتمنى بينه ونفسه، أن لو حكى له أحدٌ ممن رآهم في الماضي وتمنى حالهم سفرًا، أو أن لو صارحه أحدٌ ممن تخيل قدومه من الجنة حين استقبلهم في صالات الوصول.
ولاشك في أن الغربةَ فيها من الإيجابيات كثير، وبها من ترقية الخبرات والمهارات أكثر، ويرى فيها من اغترب مالم يكن له أن يراه لو لم يغترب،
إلا أن أخذ الغربة بعين الإيجابية فحسب، تظل رؤية مبتورة، وتحتاج لإلقاء ضوءٍ على حقائق واقعية وموجودة، حتى لو لكثيرين منّا غير منظورة.