فاجأني بسؤاله, وهو الشاب الذي أرى فيه ذكاءًا مُتّقدًا وحبًا جارفًا للوطن وأهله حين قال: لماذا لا تنظر إلى بعض فئات الناس ممن لا يقدمون للوطن كثيرًا, وهم ليسوا بجزءٍ هام في عجلة التنمية والإنتاج وإفادة الوطن في شيء, لكنهم يتكسّبون بشكل ملفتٍ وكبير, فهاهم بعض من المغنين من الدرجة الثالثة, من حيث فنون الغناء وأصوله وأسسه ومن حيث جودة كلماته ومعانيه فضلًا عما تحويه الكلمة من تدني في الألفاظ والمفردات, لكن تجدهم يحصدون الشهرة والمال ويعرفهم القاصي والداني, بل ويجوبون الدول يكافئونهم على ما يقدمون من غثٍ ليس فيه سمين, ألا ترى أن هؤلاء يتقدموا الطبيب والمهندس والعالم الذي يفني عمره في أبحاثه وتعليم طلابه ورفع اسم وطنه حين يتوصل إلى اكتشافٍ علمي,
ألا ترى أن ذلك المشهد بقتامته يدفعنا كشبابٍ دفعًا إلى أن نزهد في التحصيل العلمي والجد والمثابرة والعمل بجهد لما يصل بنا إلى رفع اسم مصر بأعمالنا الجادة, حين نرى أن الجد والاجتهاد لا يرقى إلى شيءٍ مما يتحصل عليه من لا يقدمون للوطن شيئًا ونحن نقدم الكثير, ؟
ألا ترى أننا نهدر أوقاتنا التي هي أعمارنا فيما لا نتائج منه لنا, كما لم نرها على من سبقنا في مضمار العلم والتدريس والأعمال المهنية ؟ مما يفقدنا الأمل ويضعف لدينا قوة السعي للهدف, ؟؟
لا أخفيكم سرًا فلقد حزنت كثيرًا, لِما طرحه الإبن الشاب في وجهي وكأنما قد ألقى أمامي بمعضلةٍ أراها ليست سهلة على الشابِ أن يستوعبها, حين نقول له: إن الجَد والاجتهاد طريق النجاح, أو ما شابه من الأقوال التي نتمتم بها كثيرًا أمام أبنائنا الشباب.
وفي الحقيقة حاولت أن أرد بشكل غير تقليدي على أن يكون صحيحًا وصائبًا, وفكرت في موضوع الرزق, فهو الآن أصبح محورًا أساسيًا في تحريك أفكار الناس وتوجهاتهم وبالتالي سلوكياتهم, فقلت له: هل تشك في أن ما يصل للناسِ من مالٍ أو شهرة أو أيٍ مما يحصل عليه الإنسان هو جزء أصيل في مجمل رزقه المكتوب,؟؟
قال: بلى, فاستطردت قائلًا: على هذا الأساس الذي يجب أن يكون راسخًا, لابد أن نعلم بأن الإنسان سوف يحصل على هذا المال في حياته مما قد كُتِب له أن يأخذه خلال خطِّه الزمني طوال عمره لا محالة, شاء ذلك أو أبى, سيأتيه هذا الرزق من المال أو الشهرة أو غيرها ولاشك, وعلى ذلك فلا غرابة في أن يتحصل الإنسان على ما نتعجب له من حيث عدم نفع ما يقدمه هذا الإنسان لغيره ولوطنه لكنه يتحصل على المال والشهرة, وتمّحي الغرابة حين نعلم أن ذلك رزقٌ مكتوبٌ له سيأتيه سواءً قام بعملٍ ينفع أو لا ينفع,
ويبقى المحك والفيصل في أن ما يقدمه الإنسان من عملٍ سوف يحاسب عليه في الآخرة من حيث نفعه للوطن وللناس من عدمه, وهنا يجب أن لا ننظر ولا نركز ولا نلتفت إلى ما يتقاضاه غيرنا من مالٍ أو غيره لأنه جزء من رزقٍ لا حيلة لديه فيه, ولكنّ الأهم من ذلك هو أن أقارن نفسي من حيث "العمل والأداء" وما أقدمه في عملي مما ينفع الوطن والناس, وأقارن ذلك "بعمل وأداء" من أراهم على وفرةٍ في تحصيل المال والشهرة.
صمت الشاب طويلًا فتركته ومضيت, متمنيًا أن كلماتي تستثير داخل الشاب محورًا حقيقيًا وصحيحًا, هو المقارنة في العمل والأداء الذي هو قيمة حقيقية, بعيدًا عن المقارنة المالية التي لن تكون سويّة, حيث لا نرى من صاحب المال إلا جانبًا واحدًا من جملة أحواله التي لا نعرف عنها كثير.