في بعض الأحيان نتصور أننا وصلنا لمرحلة من الانشغال بأنفسنا ومشاغلنا وآلامنا بالقدر الذي لا يدع هناك مساحة للتأثر بألام الآخرين ظنا مننا أن آلامنا هي نهاية الكون ولكن عندما نصطدم بالواقع فالأمر مختلف تماما ... وهذا ما حدث لي عندما ذهبت للمتابعة عند الطبيب بالقاهرة .. وكنت هذه المرة بدون والدتي كانت معي فقط مؤنس للطريق ولكنها لا تفقه شيئا "ما هي الا مجرد ونيس" وهذا الطبيب نظرا لمتابعته الدائمة للحالات الحرجة على الهاتف فالكشف الواحد يستغرق منه وقت ليس كل الوقت للمريض الذي أمامه ولكن أيضا لمتابعات الهاتف فمثلا في آخر مرة جلست في حجرة الكشف حوالي ساعة الا الربع "ربع ساعة كشف والنصف الأخر بيتابع حالات على الهاتف" .. وهذا ما يجعل أفضل المرات التي غادرت فيها العيادة كانت الثانية صباحا .. ففي مرات كانت تصل للسادسة والسابعة صباحا .. ولما كنت بمفردي هذه المرة والتواجد في الشارع بعد منتصف الليل بساعات ليس بالشيء الطريف فقد لجأت مضطرة إلى أسلوب سخيف ارفضه دائما وهو أن وكما يقولونها "أشوف التمرجي بحاجة علشان يدخلني بدري" .. وفعلتها وانا على مضض بالرغم من أنه لن يدخلني سوى بدري كشف أو كشفين وبالرغم أيضا من أنه لن يدخلني الا في دوري لأن الطبيب بالداخل هو الذي يقرر من يدخل ومن ينتظر "لا تسألوني كيف والدليل على ذلك أنني برغم الرشوة دخلت للدكتور الساعة 3 بعد منتصف الليل" الا انني كنت مخنوقة جدا لهذا التصرف .... المهم .. ونظرا لطول الانتظار يصاب المرضي بالملل ثم الضجر ثم الثورة على الولد الممرض والسؤال الطبيعي والدائم والأبدي "قولنا اعمل معروف دورنا امتى" .. وبالطبع قرأ الأدوار حسب "اللي اتشاف بيه" وهنا هاج من هاج وثار من ثار ... وتضاربت الأقوال مابين اتهام الممرض بأنه لا يرى شغله جيدا وبين من يتوعده ان لم يدخل في موعده والممرض يحاول تهدئتهم حتى لايسمعه الطبيب و "يقطع عيشه على حد قوله" ومن بين تلك الأصوات الصاخبة كلها تسلل صوتها الواهن الضعيف الكسير إلى أذني .. لا لا لا .. بل إلى قلبي .. وهي تسأله في وهن "لو سمحت كده حرام عليك لأني قايلة لك في التليفون قبل ما آجي قوللي على ميعاد أدخل علطول لأني تعبانة ومش هقدر اقعد" والتفت إلى صاحبة الصوت فوجدت ويالهول ما وجدت .. فتاة لا يتعدى عمرها العشرون عاما .. جميلة .. رقيقة بدرجة لم يفلح المرض بوشاحه الشاحب الذابل أن يشوههما .. ولكنها حزينة .. كسيرة .. تتساقط من عينيها الدموع الصامتة لتسقط على قلبي كسياط قوية لا ترحم .. جاوبها الممرض "أيوة قولتيلي بس حضرتك شايفة" ردت عليه في أقسى عبارة ممكن أن يسمعها بني آدم " شايفة ايه بس حرام عليك أنا بأتقطع وأنا قاعدة وانتي مش وعدتني .. ولا خلاص مكتوب عليا كل اللي حواليا يكدبوا عليا" وهنا ثارت شقيقتها على الممرض إلا أنها استوقفتها لأنها لا تتحمل الصوت المرتفع لأنه يؤلمها في جسدها الهزيل .. وقالت للممرض " خلاص طيب قوللي هادخل امتى بس أرجوك ما تكدبش عليا وأنا راضية" .. فقال ويبدو أن انسانيته أفزعتها هيئة البنت وصوتها الواهن فقال " سامحيني مش بايدي حاجة" فقالت "طيب قوللي بس هدخل امتى وأنا راضية" فأمسك بالكشف ونطق إسم ثم إسمي ثم إسمها وأحسست وبصدق وكأنني قد لدغني عقرب وقلت دون أن أشعر " إنت عارف لو دخلتني قبلها هأكره نفسي لغاية ما أموت .. مش بس كده انت لو ما دخلتهاش دلوقتي أنا هرتكب جناية دلوقت" ليست بطولة ولا شهامة مني ولكنه ارتداد إلى الحق "بالرغم من أنني كنت لن أأخذ الا حقي" ولكن الواقع أنه يظلمنا جميعا فلما أنحي نفسي عن الظلم تاركة خلفي تلك الملاك الحزين .. شعرت وقتها أنها كيمامة صغيرة ضعيفة نسحقها بلا رحمة غير عابئين بآلامها ولا ربيع عمرها الذي أنهكه المرض .. قالت في وهن موجهة كلامها إلي " أنا حضرتك عارفة إن مش بإيده حاجة ولا بمزاجي ولا بمزاج حضرتك الدكتور هو اللي بيدخل على كيفه" .. وهنا وعدها الولد أمام اصرارنا أن يدخلها أولا .. صمتت وعادت إلى صمتها مستكينة ودموعها تنهمر في صمت وكأنها جزء من قسمات وجهها البريء الحزين كانت تجلس بجوارها والدتها وتربت على كتفها من حين لآخر وهي تربت على يدي والدتها بدورها في مشهد لن أنساه إلى أن تواري عيني التراب .. جلست اختلس إليها النظر من حين لآخر حتى لا أؤذي مشاعرها .. إن أروع فنان لن يمكنه ابدا أن يرسم تلك الدموع التي لا تدري كنهها .. هل هي دموع ألم أم دموع قهر أم دموع استسلام لمصير حتمي وخاصة بعد أن علمت بنوع مرضها .. حقا لا يمكن أن تجزم ما هو كون تلك الدموع ولكنها حارقة تسقط على القلب كالسياط .. أقسم بالله العظيم لو دمي يسيل قطرة قطرة في سبيل أن تكف تلك الدموع لما تأخرت لحظة .. بل ولو إن قطعوا من جسدي قطعة قطعة "إن جاز لي ذلك" ليمنحوكي الابتسامة لما تأخرت ... كان حلمي وأنا صغيرة ان أكون طبيبة وما احادني عن تلك الفكرة سوى كرهي الشديد للأحياء والآن فقط حمدت الله تعالى أنني لست طبيبة والا كنت ماذا أفعل لو واجهتني حالة مثل "مروة ذات الدموع الصامتة" الدموع التي أقضت مضجعي وجعلتني أبتهل طوال الليل لله العلي القدير الشافي القادر على كل شيء أن يشفيها ويمتعها بشبابها .. يارب أنت وحدك القادر عندما يعجز الطب وأنت وحدك من يقول للشيء مهما صعب كن فيكون .. أسألك يارب برحمتك وعفوك وكرمك وجودك وقدرتك أن تشفيها وترحمها وتخفف آلامها .. ربي إنك رفعت البلاء بدعاء نملة .. فبنفس ذات الرحمة أسترحمك أن ترفع عنها البلاء
إخوتي واخواتي أعضاء تاميكوم وكل من يدخل ليقرأ هذا الموضوع زائرا أستحلفكم بالله أن تبتهلوا معي لله العلي القدير ولندعو لها بظهر الغيب أن يشفيها بشفاء من عنده .. ما لشيء غير هذا كتبت هذا الموضوع
وأخيرا .. عزيزتي مروة ذات الدموع الصامتة .. ربما لن ألقاكي ثانية ولكني سادعو الله ان اراكي مرة أخرى وتكون قد اختفت من عينيكي الدموع .. كما أريد ان أقول لكي برغم من دعواتي لكي بالشفاء وربما أكون أسبق منكي للرحيل من ذلك العالم البغيض فليس فيه ما يبهر ولكنني أريدك أن تنعمي بحياة طيبة لأني احسست انكي تتمنين الحياة وتقبلين عليها برغم آلامك عندما سمعتك تحدثين والدك في الهاتف ةتقولين له "ادعيلي يا بابا"
مروة .. جعلتيني أستحقر ألامي .. جعلتيني أزهد في كل شيء حتى في الحياة نفسها
ليس لي فيها من طلب سوى أن ألقاكي مرة أخرى بلا دموع