دت وكأنها تعود من مكان سحيق سحيق من خلف ضباب كثيف ينقشع رويدا رويدا .. شعرت بأن جفناها أثقل من جبل أحد .. جاهدت كثيرا لتفتحهما .. وشيئا فشيئا رأت ضوءا خافتا يتسرب إلى عينيها .. وبدأ عقلها يسترجع جميع برامجه كالحاسوب عندما نفتحه .. وبعد برهة بدأ عقلها يستوعب ويتذكر ... هاه لقد أفقت لتوي من العملية الجراحية التي أجريت لي .. بدأ عقلها يستعيد ما هو مخزون في الذاكرة وليته لم يفعل .. فقد تدفقت كشلال غاصب كاد يعصف برأسها وسلمها لصداع عنيف يكاد يفتك بكل خلية فيه .. صرخت صرخة عنيفة من عميق ألمها وقلبها ولكنها ما غن بلغت شفتاها بدت خافتة جدا .. سمعت الباب يفتح وصوت يقول في حنان روتيني "حمدلله على سلامتك" .. التفتت اليها " أنا فين" ...."حضرتك في العناية .. حاولي ترتاحي " ..... "أرتاح إزاي والصداع الشديد دا" .... " هديكي منوم وتنامي" ..... أحست براحة كبيرة لأنها ستعود مرة اخرى غلى اللاوعي ...............
مر على هذا الموقف يومان
بعد أن أعطتها الممرضة دواءها بنفس حنانها واهتمامها الروتيني وأعادت الاطمئنان على أن الأجهزة والخراطيم المتوصلة بجسدها المتهالك تعمل بجودة قالت مستمرة في روتينيتها "أي خدمة تانية" ...... "شكرا" .... خرجت واغلقت الباب وراءها
هي مستلقية على الفراش مستسلمة للمرض وللأجهزة .. تلفتت حلوها لم تجد سوى سريرين فارغين وأجهزة هنا وهناك .. كل شيء حولها أبيض .. سبحان الله كانت تحب ذلك اللون كثيرا وكانت تتفلسف من ذي قبل على ماذا يعني ذلك اللون الجوكر الذي يندمج مع كل شيء .. مالها تراه اليوم مقبضا حزينا .. الان تذكرت ما كان يعنيه نزار قباني عندما كان يقول شاكيا .. "أغطيتي بيضاء والوقت والساعات والأيام كلها بيضاء" ... الصمت يغلف الحجرة إلا من صوت ازيز الجهاز الموصول بقلبها .. مالها تسمعه أنينا .. وكيف لا وهي تشعر أن كل ما عانته في الأيام والساعات السابقة لم يخدش او يغير من احساسها بالحزن وأنينه الذي يتحرك في دأب بين الضلوع ... وكانه حارس على القلب يخشى ان يسكنه شيء غير الحزن ... لا تدري لما شعرت أنها تريد أن تنظر في المرآة .. أول مرة تواتيها تلك الرغبة الملحة في أن تنظر لوجهها .. كانت متلهفة لتراه .. لم تبال بنظرات الممرضة المستنكرة عندما طلبت منها أن تمنحها مرآة .. بل لم تنظر إلى وجهها الا بعد أن خرجت الممرضة .. رفعت المرآة أمام وجهها ونظرت .. تفحصت ملامحها وكأنها تراها لأول مرة ثم .. نظرت إلى عينيها وجدتهما لا يحملان أية تعبير وجدتما صلدتان كالصخر أو كالموت .. وسألت .. هل بلغ بي الحزن كل هذا المبلغ حتى أنه مسح كل تعبير ممكن فيهما ... تمنت لو كان معها أحد في الحجرة .. ولكن ليس أي أحد كانت تحتاج للاهتمام للحنان .. لخلٍ وفي تشعر معه بالأمان .. نعم الأمان تلك الكلمة السحرية التي تشعر الإنسان بالسعادة والارتياح ويحال معها كل الصعب سهلا .. ولكن أين ... الصمت ثم الصمت ثم الصمت .. حتى باتت الحجرة وكأنها قبر وبات رداءها وكأنه الكفن ........ وهنا صرخت منادية الممرضة وقالت " إن لم يكن لي من الموت بدا .. فأخرجوني أنتظره خارج تلك الحجرة فلا احب أن أُقبر مرتين