خالتي عطية
"لو كان بيدي لوضعتك في قائمة الشرف الوطني"
من تكون خالتي عطية ؟؟؟؟
هي سيدة مصرية بسيطة ، بل خير مثال للمصرية الأصيلة .. سيدة ذات ملمح مصرية عادية لم يفلح الفقر والاحتياج أن يغتالا ابتسامة الرضا التي كانت دائماّ تكسو وجهها .
تعرفت عليها منذ أن تزوجت شقيقتي الكبرى قبل حوالي أكثر من ثلاثين عاماّ ، حيث كانت تتردد على منزل أهل زوج شقيقتي كسيدة ريفية تأتي إليهم بالطيور والخضروات وما شابه من مستلزمات المنزل ، وكنت ألقاها أمامي لقاءاّ عابراّ لا يتعدى " إزيك يا خالتي عطية .. عاملة ايه" وترد " الله يسلمك يا ست انشالله تسلمي أنا في نعمة وفضل وكرم من ربنا سبحانه وتعالى" ............... هكذا دائماّ كانت كلماتها حمدا وشكرا دائمين لله سبحانه .
وظل على هذا المنوال حالي معها مجرد معرفة سطحية حتى أنني لم أهتم بالسؤال عنها أو عن ظروفها الشخصية .. كانت بالنسبة لي مجرد سيدة بسيطة طيبة تروق لي كثيرا وتثلج صدري دعواتها التي كانت تمطرنا بها كلما رأتنا "في المناسبات" .
إلى أن أتى يوم أن تزوجت الابنة الكبرى لشقيقتي وبالطبع ذهبت لمنزل شقيقتي ومكثت هناك بضعة أيام فترة زفافها .. وكانت هناك خالتي عطية لتأتي ببضاعتها التي بها من الريف وبعد أن أنهت مهمتها جلست لتتناول طعام الغذاء وكنت أتصفح الجريدة وأتحدث إلى أحدهم تعليقا على قرار من قرارات الحكومة "لا أتذكره الآن" أيام حسني مبارك وقلت " والله الحكومة دي غريبة وقراراتها أغرب"
فتدخلت وهي تقول : "أكيد فيه حاجة يعني يارب يخلي الحكومة ويسترها دنيا وآخرة"
نحيت الجريدة جانبا ونظرت إليها في بلاهة واستغراب وقلت : "بتقولي ايه؟! عيدي كده تاني" ....
كررت جملتها وهي تبتسم في صدق وطيبة " بقول يارب يبارك في الحكومة اللي مش عاملة الا كل حاجة حلوة"
فابتسمت متهكمة "لا والله... دي الحكومة !!!... الحكومة بتاعتنا!!!! .... انتي بتتكلمي بجد .. أصل أول مرة أسمع حد بيدعي للحكومة بكل الصدق والتفتني دا .. لأ وكمان بتدعي من قلبك أوي ... ودا من إيه دا يعني خير"
كادت أن تصيبني حالة من الشلل الرباعي من جراء كلماتها تلك واحتمال تجلط في الشريان التاجي من هول ما سمعت ، الا أنها قالت في هدوء من تنعم نفسه بالسكينة وهي تضع لقمة في فمها وهي تلوك الطعام : "أومال يا ست دي كفاية إنهم بيدوني خمسييييييين جنية بحالها كل أول شهر " ، فرددت في استنكار : "خمسين جنية؟؟!!!!!!!!!!!!!"
قالت بطيبتها وهي تظن أنني مستكبرة المبلغ : " أيوة يا ست والله بتديني حمسين جنية وأنا علشان كده أنا مليت بيتي من كله"
قذفت بالجريدة بعيدا وقد شد انتباهي حديثها ... وهل سأجد في الجريدة ما يستحق الاهتمام أو يثير الفضول مثل الذي تقوله تلك السيدة التي أحسست أنها لا تنتمي لعالمنا على الاطلاق .
اعتدلت في جلستي وقلت لها في تحفز وانتباه شديد كمن مقبل على اكتشاف ذري جديد : "إزاي بأه مليتي بيتك من كله من خمسين جنية "
قالت : " شوفي يا ست دخلت الكهربا الأول بالقسط وبعد ما خلص قسط الكهربا وراها المحارة وبعدين البلاط وكله بالقسط بس كنت ما ألخمش نفسي في قسطين ، قسط واحد كفاية وبعدها أستلم القسط التاني .. "
ابتسمت في نفسي وأنا أقول : "كويس أصلا إن معاشك متحمل قسط لسه هتخليهم اتنين "
واسترسلت وهي تقول : "وأستلم المعاش من هنا وعلطول أسدد القسط وعشان كده الناس عارفيني ملتزمة بمواعيدي ولما أعوز حاجة قسط يدوهالي علطول .. ودلوقتي الحمدلله ألف حمد وشكر ليك يارب ، بيتي فيه نور ومية ومبلط ومبيض وجبت كمان كنبتين والأكل ع السكين والخير والله للعتبة يا ست"
قلتها " ست ؟؟؟!!! ست إيه؟؟!! دا إنتي اللي ست الستات"
هذه ليست خرافات أو خزعبلات بل واقع ملموس وحدث بالفعل ...
وأنهت حديثها قائلة : "لما تبقى النفس راضية وقانعة والقلب عمران بالحمد والشكر لله البركة بتعم والقليل بيبقى كتير"
وهنا عرفت السر .. السر في الرضا وحمد الله على نعمائه مهما كانت قليلة في نظرنا بالحمد والشكر تزداد النعم والبركة تعم فتحيل القليل كثيرا جدا
والآن توفت هذه السيدة العظيمة التي علمتني الكثير .. توفت بنقس راضية قانعة مطمئنة
رحمك الله خالتي عطية وأسكنك فسيح جناته