تعطلت بها السيارة في مكان ما على الطريق الفرعي من الطريق الصحراوي المؤدي إلى بلدتها .. صحيح أن الوقت مازال مبكرا إلا أنها شعرت برعدة تسري في جسدها فهي على كل حال بمفردها في هذا المكان الموحش .. ترجلت من السيارة وهي تتلفت حولها علها تجد هناك من يغيثها .. لملمت معطفها بكلتا يديها وهي تسير الهويني كان الجو مشمسا دافئا نوعا ما ولكن يبدو أن إحساسها بالوحدة والاغتراب هما السبب بشعورها بعدم الدفء ...
ظلت سائرة لدقائق وهي تتلفت هنا وهنك حتى وقع بصرها على بيت شبه مهجور هناك على قمة جبل يبعد حوالي نصف الكيلو عن الطريق ... لا تدري لما جذبها منظر البيت برغم الحالة الرثة التي هو عليها .. وربما هذا هو الذي جذبها فهي تعشق القديم وتعشق الغموض وهذا البيت بوقوفه وحيدا على قمة الجبل يحمل الكثير من الغموض مع بعض من روعة وشجن الماضي ... انجذبت له بشدة وسارت في اتجاه المنزل ناسية كل شيء حولها .. السيارة المعطلة , المكان الموحش , شعور البرد الذي كانت تشعر به ... كل شيء كل شيء نسيته وكأن قوة سحرية تشدها شدا رغما عنها إلى ذلك البيت الجميل الحزين الموحش الجذاب ...
ظلت تصعد في هدوء وعزيمة حتى وصلت عند مدخل الطريق المؤدي للمنزل ووجدت حوله سور لحديقة لم يكن واضحة لها من اسفل .. لا تدري لما شعرت بألفة مع المكان .. دفعت باب الحديقة الصغير ومضت للداخل .. ألقت نظرة على الحيقة كانت جميلة بسيطة منسقة تبعث لهدوء نفسي واطمئنان عجيب .. استمرت في سيرها داخل الحديقة .. وفجاة أفاقت لنفسها من هذا التأثير الذي خدرها وسألت نفسها يبدو أن هناك من يعيش هنا فماذا يقولون عني وانا اقتحم منزلهم بتلك الطريقة ... ولذلك بدات تنادي من بالداخل بصوت مبحوح من أثر الحالة التي تعتريها ثم مالبثت أن تنحنحت حتى يعلو صوتها ونادت بمن بالداخل .. ولم تمضي سوى لحظات حتى وجدت الباب يفتح ليظهر من خلفه رجل في أواخر العقد الخامس له لحية وشارب كثين ويرتدي قبعة ويمسك بغليون ينفث دخانه في هدوء ويبدو وكأنه قبطان بحري أتيا من العصور الوسطى ...
ابتسم لها ابتسامة ودود لا تخلو من اندهاش وقال مرحبا " أهلا ومرحبا كيف وصلتي إلى هنا "
قالت " لقد تعطلت سيارتي ولفت نظري المنزل و.........." قاطعها " وجذبك الفضول إلى هنا أليس كذلك"
نظرت إليه في دهشة ولم تتفوه بكلمة الا أنها شعرت بألفة ناحيته .. ولم يتركها صامته متحيرة كثيرا فاستعاد ابتسامته الودود وقال " أهلا بك على كل حال .. تفضلي لتتناولين معي كوبا من الشاي الساخن ثم آتي معكي لأصلح لكي السيارة فأنا لدي خبرة في ذلك ولدي المعدات اللازمة لذلك" .. لم يمنحها المجال للاعتراض وقال منهيا النقاش "تفضلي" .. اتجهت معه لركن في جانب الحديقة وقال "هذا ركني الخاص الذي أحب الجلوس فيه" .. كان شجرتان يبدوان وكأنهما يحتضنان بعضهما البعض ويرميان بظلهما على مساحة كبيرة حولهما وأسفل الشجرتين كرسي هزاز وأمامه منضدة عليها موقد صغير لصنع القهوة أو الشاي .. دعاها للجلوس وجلس على كرسيه وانهمك هو في اعداد الشاي انصرفت ببصرها عنه تتأمل الحديقة والبيت الصغير الذي كل جزء منه تفوح منه رائحة الزمن وعندما انتهى من اعداد الشاي وقدمه لها في ود سألته " أريد أن أستفسر عن شيء إذا سمحت لي " قال وهو يرشف من الشاي في هدوء "تفضلي" ... قالت "لماذا انت هنا في هذا المكان الموحش" .. وضع فنجانه وأخرج غليونه واشعله ثم نفث دخانه في هدوء وهو ينظر بعمق في عينيها ..وقال "لأن ببساطة ليست لي مكان سوى هنا "
قالت "تقصد أنك لا تمتلك سوى هذا المكان "
قال " بل أقصد إنه المكان الوحيد الذي أستطيع ان أعيش فيه بعد أن أقبرت به كل احلامي"
اندهشت وتدلت فكها وهي تقول "ماذا؟!!"
قال "نعم لا تندهشي هكذا فأنا كانت احلامي كثيرة وامالي عريضة ولكنها كلها لم ترى النور وظلت حبيسة صدري بالرغم من كل الجهد الذي بذلته لتحقيقها ولكن شاءت ارادة الله دون ذلك "
قالت " وهل معنى ذلك أن تعتزل الناس والدنيا وتعيش هنا بمفردك هل تكره الناس إلى هذا الحد"
فال " بل على العكس إنني أحب الناس جدا ولكنني دائما كنت أرى نفسي فارسا وأحببت أن أحيا بأخلاق الفرسان .. كانت طبيعتي كما خلقني الله هكذا .. أحب للحب نفسه .. أريد أن أسعد من أحب لأن سعادتي وليدة سعادته .. بمجرد أن أكون سببا في ابتسامة من أحب تولد داخلي ضحكة كبيرة .. حلمت أن أفعل كذا وأن أكون المنقذ لهذا وأن أكون سببا في سعادة تلك ولكن للأسف لم أستطع أن أسعد حتى نفسي فكيف أسعد غيري .. وجدتني من كنت أتصور وأحلم أن أكون فارسا في حياتهم .. وجدتني أحتاج اليهم وجدت وقد جعلني القدر أضعف منهم .. كلما حلمت أنني سأعطيهم .. أجدني أنا الذي يحتاج اليهم وهم الذين يمدون لي يد المساعدة .. أنا يسعدني العطاء أكثر وتقتلني الحاجة وقلة الحيلة .. أنا برغم كل شيء لا أستطيع لا أن أكون فارسا ولما لم استطيع ذلك جئت في هذا المكان وبنيته بيدي ودفنت داخله احلامي .. قد يبدو لكي انني ضعيف وانني أثرت السلامة وانكمشت على نفسي ولكن لو علمتي ما في قلبي من حب جارف للعطاء لتلمستي مدي عمق جرح قلبي ومدى حرماني ممن أحبهم .. لأنني لم يمنحني القدر الفرصة لأكون في حياة حبيبتي كما أحب ... فارسا .. "
صمت فجأة ثم وقف وقال وهو ينفث دخان غليونه "هيا لأصلح لكي السيارة " سارت بجواره وبعد برهة وقبل أن يصلا إلى السيارة توقف وقال "أعلم أنكي لم تستوعبين كثيرا مما أقول ولكن صدقيني ؟ إنني وباختصار قلب قد تحالفت الأيام والأحباب لقتله وقتل كل حلم داخله "
انتهى من اصلاح السيارة وفتح لها الباب لتجلس خلف عجلة القيادة وتعود لتكمل مشوارها وبعد أن أدارت محرك السيارة أوقفتها ثانية وقالت "أيها الفارس النبيل لقد خسر من أحببتهم كثيرا حينما لم يكتشفوا قلبك"