نيران الذكريات
وقف علي على رصيف المحطة ينتظر القطار لكي يعود إلى الإسكندرية حيث مسكنه وعمله ، بعد أن أنجز بعض الأعمال السريعة في القاهرة ، وأسرع عائدا إلى الإسكندرية ليس شوقا إلى الإسكندرية برغم جمالها وسحرها الآخاذ ولكن لأنه لا يستطع الإبتعاد عن زوجته وحبيبة قلبه ورفيقة روحه (حنان) ، كانت بينهما وما زالت قصة حب رائعة إستمرت طوال سنوات الدراسة في الجامعة توجاها بالزواج وبالرغم من أن قد مر على زواجهما خمس سنوات ولم يرزقان بطفل إلا أن السعاده التي كانت تغلف حياتهما لم تشعرهما بأي نوع من أنواع الحرمان ، فقد كان الحب يكفيهما ويفيض حتى تضاءلت أمامه أي شعور آخر بالحرمان من أي مظهر من متع الدنيا الأخرى .....
إستقل القطار من محطة الجيزة وسار بين المقاعد باحثا عن مقعده حتى وجده وجلس وإذا به يجد صديق عمره يجلس على المقعد المقابل له فهتف فرحا في بشاشة وهو يفرد ذراعيه حاضنا صديقه : محمود !! يالها من مصادفة جميلة ، أين أنت يا رجل لم أراك منذ مدة طويلة لقد أوحشتني كثيرا ..
إبتسم محمود إبتسامة باهتة وقال : وأنت أيضا .
علي : أين أراضيك هذه الأيام ؟
محمود : في الدنيا ما زلت أحيا ... رغما عني .
علي متأثرا : أما زلت كما أنت لم تتجاوز أحزانك بعد ؟!!
محمود : وكيف لي أن أفعل هذا شئ ليس بيدي ، ليتني أستطيع إقتلاع قلبي من بين ضلوعي حتي يكف عن الأنين وأنسى ولكن لا حيلة لي في ذلك .
علي : أنت لا تساعد نفسك يا محمود ، لطالما نصحتك بأن تتغلب على أحزانك ولا تقتل نغسك هكذا فالحياة بها الكثير والكثير من الأشياء الجميلة التي تستحق أن نعيش من أجلها ولكنك لا تستمع إلى النصحية وكأنك سعيد بعذابك وبالموت البطئ الذي كاد أن يدمرك .
نظر إليه محمود نظرة حزينة ممتزجة باللوم وقال : من حقك أن تقول هكذا ببساطة فإنك لم تجرب وأدعو من الله ألا تجرب فهي نيران متأججه بين الضلوع لا تهدأ ولاتكل أو تمل .
علي : لا تتصور إنني لا أشعر بك فأنا أحب وأعلم كيف يكون المحب بغير من يحب أو ممكن أن أتخيل مدى عمق الألم ولكنني أرى إننا مادام لابد لنا أن نحيا وليس لنا بديل سوى ذلك فيجب أن نحاول أن نرى الأشياء المضيئة في الحياة وأن نعيش من أجلها عندها سنستعيد سعادتنا .
محمود في تهكم مرير : سعادتنا!!!!! يا لها من كلمة لكن للآسف لم يعد لها مرادف في قاموس حياتي ، وكيف تكون وقد إنقطع إحساسي بأي شئ حولي ، لقد ذهبت وأخذت روحي معها ...من أمامك الآن جسد بلا روح فهل رأيت من قبل ميت يشعر بما حوله سواء كان سعادة أو حتى حزن ، لقد كنت أرى الدنيا بعيونها وأتنفسها بأنفاس صدرها وألمسها بمشاعرها فمن أين آتي بكل هذا بعدها ، من السهل جدا أن نلقي على غيرنا النصائح والمواعظ طالما نحن خارج النيران ، ولكن جرب أن تقف وسط النار وقل لي لحظتها بماذا ستنصحني ... أنا لا ألومك فأنت لم تذق طعم النار وأتمنى من الله ألا تتذوقها فبالله عليك لا تسدي إلي النصائح من برجك العالي .
علي : هل أغضبتك ؟ أنا لم أقصد إنني فقط أردت أن أهون عليك ولا أريدك أن تضيع نفسك وحياتك في حزن قد يقتلك .
محمود : أنا لست غاضبا منك ولكن أريدك أن تعلم أن حياتي قد ضاعت بالفعل عندما إنقطع الشريان الواصل بيني وبينها .
عند هذا الحد إلتزم علي الصمت فقد علم إنه لا فائدة من الكلام ، فقد رأى أن صديقه قد رضي لنفسه الضياع ولا سبيل لرده عن ذلك .
وبعد فترة من الصمت قال علي : هل أنت ذاهب إلى الإسكنرية في عمل .
محمود : لا لقد نصحوني بالسفر للتغيير والإبتعاد عن مسرح الذكريات .
علي : فكرة عظيمة بالتأكيد ستساعدك كثيرا .
محمود : أتعتقد ذلك ؟
علي : ولما لا ؟
محمود : ذكرياتي وحنيني وحبي ممتزج بروحي وكامن بين حنايا قلبي ويجري في عروقي مجرى الدم فكيف الهرب منه ، الذكرى ليست سلة مهملات نتركها وقتما نشاء ، بل ترحل داخل صدورنا أينما ذهبنا .
وصل القطار محطة سيدي جاير وودع علي صديقه متمنيا له أجازة سعيدة يعود منها أفضل مما كان ، وأسرع عائدا إلى منزله حاملا شوق الدنيا لزوجته وحبيبة قلبه حنان ...
وصل عند العمارة التي يسكن فسها ووجد أمامها هرج ومرج إنخلع له قلبه لايدري لماذا ، وعندما إستكشف الأمر وجد الفاجعة الكبرى التي زلزلت كيانه ، فقد نزلت زوجته لقضاء بعض إحتياجتها فصدمتها سيارة وهي تعبر الطريق و ........................ قتلتها
لا ...... بل قتلته هو .. قتلت حبه ، قلبه ، روحه ، رغبته حتى في الحياة نفسها .
أصبح علي في الأيام التاليه صوره مشوهه لإنسان كان .
كان يحلم .. كان يحب .. كان يعيش.. كان .. كان .. كان ................كاااااااااااان
شعر إنه لا يستطيع التنفس لا يستطيع الحياة وما فائدة الحياة الآن ، كيف سيعيش فيها وحيدا كيف سيستيقظ من نومه فلا تصافح عينيه وجهها الصبوح كيف لن تسمع أذنيه صوتها ثانية ...لا لا ليس هناك ما يستحق الحياة من أجله شعر أنه الآن ميتا يحيا رغم أنفه على وجه الأرض .
سار على الكورنيش لا يلوي على شئ ولا يشعر بشئ سوى بنيران تجتاح كيانه ، ظل سائرا حتى وجد أريكه في مواجهة البحر يجلس عليها رجل ، فذهب ليجلس للراحه بعد أن أجهده السير وعندما جلس وإلتفت للرجل الشارد الجالس بجواره وجده محمود صديقه
تلاقت أعينهما في نظرة طويلة حزينة ثم إلتفتا إلى البحر يراقبان في صمت أمواجه المتلاطمه
تمت
هذه القصة إهداء وإعتذار لصديقة عزيزة على قلبي جدا