تقلّدت أنثى الأرض في الفكر الميثولوجي القديم مركزيّة الوجود الكوني، وتمثّلت عرش الألوهة الأولى في الطّبيعة التي تحاكي أبعادها الخلّاقة، وكينونتها المانحة، وذلك في بثّها إكسير الحياة في روح المعطيات، لتكون الطّبيعة الصّامتة بمنزلة المعادل الفني لماهيّة الأنثى الخالقة، والأم الكبرى للوجود، " فكما تتغذّى الحياة التي أطلقتها الأنثى من رحمها وعلى جسدها وفي أحضانها، وكما يعطي هذا الجسد حليباً ينبثق منه بشكل سحري معجز، وكما يهب هذا الجسد طفولة الإنسان دفئاً وأماناً وسكناً، كذلك هي الأم الكبرى، عنها انبثقت الحياة على المستوى الشّمولي وعليها تتغذّى وتستمر"([1])، وقد سميّت إيزيس الأنثى ربّة الكون، ومبدأ النّفس، منها تصدر الأشياء وإليها تعود، فهي "أم الأشياء جميعاً، سيدة العناصر وبادئة العوالم، حاكمة من في السموات من فوق، وما في الجحيم من تحت، مركز القوة الرّبانيّة"([2]).
وقد أدرك الفكر الإنساني عبر العصور هذه المكانة المتعالية للقطب الأنثوي على الأرض بادئ الأمر من خلال رسائل الحجر المنحوتة، وجدران التّشكيلات الفنيّة للنيوليت الأوّل وهندساته المعماريّة في الحفر والترسيم، فتموضعت رموز الأم الكبرى، كما حدّدها الخيال النيوليتي بكيفياتٍ وأشكالٍ عدّة فنراها" في هيئة أم حبلى، أو تضم إلى صدرها طفلها الرضيع، أو عارية الصدر تمسك ثديها بكفيها في هيئة عطاء، أو ترفع بيدها باقةً من سنابل القمح، أو باسطة ذراعيها في وضع من يستعد لاحتواء العالم"([3])
وكما نجد في المنظومة الميتافيزيقية القديمة أن الأيروسيّة الأنثوية تحاكي الكوكب القمر في الطّبيعة الكونيّة، حيث تتساوق الهوية البيولوجيّة والفيزيائيّة للمرأة مع حركة القمر الدورية وتحولاته، و" لعل اقتران المرأة بالقمر له ما يبرره في نظر الإنسان القديم، فكلاهما ينتميان إلى المبدأ السّالب في الطّبيعة والكون"([4]).
فالأنثى قطب التّوازن الكوني، وصلة وصله، ومرآة عمقه المتكشّف بلاهوتيّة جسدها، ومجازاته الغيبيّة المتجاوزة حضورها المادي بأبعادها الخيميائيّة، وتجلياتها الموناديّة، فتتقدم بأعضائها الجسمانية على تواقيت النّهايات، مترفعة عن كثافة المادّة، وأسر الشّهوة الدّنيا، ليكون بذلك جسد الأنثى جسر عبورٍ لنشوة اللذة، والوصول إلى أعتاب الفردوس، ليقرأ العاشق الطفل شموسه على نهد أنثاه الأم، والمحبوبة، والغواية المقدّسة، ويحصي أنفاسه الأخيرة على إيقاع تنهداتها وصبواته، حيث يسري الالتذاذ على خارطة الجسد شعاع توحد ببرهة فناءٍ لأجل البقاء، ليكون الحضور الأنثوي بدء الشهوة وختام الشهقة، فحين لم يكن في البدء غير الظلام كان آبسو وكانت تيامات:
" في البدء
لم يكن سوى الظّلام والمياه
بينما في الأعالي لم تكن السّماء قد سُميت بعد
والأرض اليابسة في الأسفل
لم يكن من الآلهة سوى آبسو والدهم وتيامات والدتهم
وكانا معاً يمزجان مياههما "(([5]
[1] - السواح، فراس، لغز عشتار، دار علاء الدين للنشر، دمشق، ط1، 1985، ص43
[2] - المصدر السّابق ذكره، ص 27
[3] ‑ السابق نفسه، ص25
[4] - لغز عشتار، ص 76
[5] ‑ السواح، فراس، الأسطورة والمعنى، منشورات دار علاء الدين، دمشق، ط2، 2001، ص38