حين رآها في صباح يَومٍ شِتوي، السماء مُلبّدة بالغيوم والشمس امتنعَت عن الظهور، بدون قصد أو ترتيب.. وجدها، جالسة وحدها، في المقهى الذي يكتظ بذكريات الراحلين ولحظات انتظار الغائبين.
رآها، كما لم يراها أحد من قبل، انجذَبَ إليها كرسّام أمام لوحات دافنشي، أبهرته هيئتها الهادئة كَباحث عَثُر على قطعة أثريّة مفقودة.
جلسَ بالقُرب مِنها يتفحّص تفاصيلها الساكنة، ينظُر بِتمعُّن ويُدوّن في دفتره الصغير بتريُّث، ينظُر ويدوّن غير مُكترث بنظرات العجائز المُتسائلة: هل يَكتُب أم يَرسم!؟
أخذَ يَكتُب.
" لَم أرى شيئًا هذا الصباح يُثيرني للكتابة سِوىَ هذه المرأة، جالسة أمامي الآن في هُدوء شديد، كأنّها في لحظات تأمُّل أو استحضار حبيبًا لَم يُوجَد قط، شاردة...تائهة، تنظُر إلى فراغ الشارع المُمتدّ، تستمع إلى همسات أوراق الخريف مع الرياح وهمهمات العُشّاق والأصدقاء الذين مرّوا مِن هُنا قبل صُدور حُكم الفُراق، تتجاهل قهوتها الباردة كما تجاهلَت مِن قبل العديد من مُحاولات التقرُب إليها والدخول في علاقات معروفة نهايتها.
هيئتها توحي بأنها لا تنتظر شيئًا ولا تتوقّع مجيء أحد، كأنها على موعد مع نفسها، في اجتماع مُغلق مع خيالات وتخيُّلات أعماقها، ملامحها لا تحمل اي تعبيرات، كورقة بيضاء تنتظر مَن يُزيّنها بالألوان أو المُفردات. ثابتة, لا تُريد لَفت الأنظار، تبدوا كأميرة هاربة مِن بطش الغُزاة وتُفكّر كيف تستعيد مملكتها المُدمّرة، نظراتها بريئة كملاك هبط للتو من السماء ولا يعرف شيئًا عن رذائل البشر وخطايا الإنسان، وهل تجلس الملائكة في المقاهي!
أراها أنثىَ مُختلفة...مُلهمة، تحمل بداخلها الكثير من القصص العجيبة، امرأة ليسَت عادية وفَوق التوقّعات والتخمين، تبدوا لي أسطورة قديمة تجدّدَت، حكاية مُذهلة خرجَت من مُجلّد ألف ليلة وليلة وفي جسد أنثىَ تجسّدَت، رواية طويلة بلا نهاية، قصيدة عبثية بلا قافية."
أغلَق دفتره الصغير وهم بالخروج، وقبل أن يُغادر التفت إليها، نظرت هي إليه بدون اهتمام والتقت أعينهما، خرجَ مُسرعًا قبل أن يسقُط، اتّخذ الجهة المُعاكسة حتى لا يراها ويخضَع، تحسس دفتره في جيب معطفه، ابتسم وقال لنفسه: إنها بداية رائعة لروايَتي القادمة.