هُناك؛ خلف النافذة، أراه بوضوح، واقفًا كصَنم لم يحظ بأي انتباه، يرمي نحو العالم نظرات تائهة، خيوط دخان تتشكل أمام وجهه كلمات سُرعان ما تختفي، ينظر إلى السماء في وجوم، يراها رمادية مُتّشحة بالسواد، أشعة الشمس في عينيه حمراء وباردة.
أسمع أحاديث عقله كأنه شيطان يجلس على كتفي.
يتساءل: ما بال المُدن تبدو كنساء هربن من بيوتهن ليتراقصن على شواطئ الغيوم والظلال؟ كأمهات تركن أبناءهن للجوع والموت؟
ما بال الناس يتحركون في خفة وفوضى كالقوارض!
لماذا لا أرى الشمس كما يراها سائر الناس؟
ما الذي يُبقيني هُنا؟ يُمكنني الطيران!
ما الذي يُخيفني! أستطيع التبخُّر والانصهار!
أن أصبح هواءً أو ورقة شجر !
أريد أن أكون شيئًا آخر، رُبّما طيرٌ أو كتابٌ!
صوته يتردد في أذني، هذا الرجل غاضب، يحمل بداخله عدة شخصيات خطِرة، أفكار مُنحرفة ودوافع لفعل حماقات وربما جرائم.
إنه يُحدثني، يُطلب مني الانصات وعدم المُقاطعة،
يقول لي:
الجهلة يُصدقون أنفسهم بأنهم شُعلة النور والعلم، ينشرون الجهل والدجل بكل حماس، أحاديث تافهة عن مؤامرات وجماعات وأبراج، تنبؤات عقيمة وساذجة، إلقاء الضوء على مُدّعين وكاذبين ومجانين، ما كل هذا الهراء! أصبح كل من يحظى بقليل من الانتباه يظن نفسه عليمًا وخبيرًا بكل الأمور، سُحقًا! ما كل هذا الحماس في نشر الجهل! ما كل هذه الثقة التي يتحدث بها قليلو العلم ومحدودو الفكر! أصبحت الشاشات تكتظ بالعبث والعبث والعبث، هراء لا يستحق العناء أو حتى دقائق من التفكير، يزعمون بأن الشياطين تطوف الأرض وقوى العالم تتآمر ضدنا، الشياطين بداخلنا، العالم لا يرانا ولا يهتم بالجهلاء والأموات، لا تُصدّق كل هذا العبث، إنهم حفنة من الأطفال يلعبون في ساحة خاوية، لماذا لا يتحدثون عن الظلم والفساد في أوطاننا بدل انشغالهم بتفاهات العالم؟ يرفعون لافتات التنوير وهم تروس في ترسانة تغييب وتزييف الوعي.
خيّم الصمت فجأة، ذهب الصوت واختفى طيفه من خلف النافذة، أين ذهب؟
نظرت لأعلى فوجدته يُحلّق بجناجين من الورق، يرغب بعناق الشمس، يريد أن يحترق.
همست لنفسي: لمَ تُشغل عقلك يا صديقي؟ لماذا تهتم؟ دعهم يسبحون في أنهار الغفلة فلا أحد يرغب في الوصول إلى شواطئ الحقيقة.
نظرت نحو البناية فلم أجد النافذة، تلاشت مع صاحبها، ثم اختفت البنايات كأنها لم تكن، مشيت نحو السراب والمجهول، لم يكن أمامي سوى فراغ مُمتدّ حتى الأفُق؛ وإلى الأبد.