إيميلدا
رُبّما امرأة واحدة تستطيع تغيير العالم, ربّما يُمكنها تبديل لون الحياة الباهت إلى لون وردي مُبهج, تستطيع وبدون تعب أن تغرس الزهور في البساتين البائسة وزرع النباتات والثروات في الصحراء القاحلة, المرأة يمكنها تحويل ساحات الحروب إلى ساحات ألعاب أو عُروض موسيقية, بأنامل رقيقة وجدائل طويلة وابتسامات لطيفة, يختفي كل قُبح العالم ويتحوّل إلى مجرد تفاصيل مُهمَلة في لوحة كبيرة ورائعة الجمال, هكذا أنتِ .. في عقلي.
إيميلدا, ما سر البهجة الموجودة في البساطة... العُزلة...القراءة...الموسيقى! لماذا نبحث عن السعادة في الطُرُق الخاطئة والدروب المُظلمة؟ السعادة بداخلنا وليست خارجنا أو حولنا, لكن النفس البشرية تميل إلى التعقيد وتهوى الصعوبة والشقاء, كُن بسيطًا تَسعَد, كُن لطيفًا تُنجوا, كُن ليّن القلب تفوز بكل ما هو جميل.
بالأمس هطلَت الأمطار, أغرقَت الشوارع وأسكنَت الناس منازلهم, المطر يَفرض الهدوء على الأماكن, يَنشُر السكينة في القلوب, البعض يشعُر بالوَحشة ولهم أعذارهم.
في الليل, جلست في غُرفتي, أُدخّن..أُفكّر وأقرأ لدقائق كل ساعة, أمرّ على الكُتُب مرور الكرام, موسيقى صاخبة لا تتوقّف, قهوة لا تبرد وأفكار لا تهدأ, سجائر لا تنطفئ كأنني أُعاقب نفسي, حالة جنون لطيف أستمتع بها, جلست لساعات وتشغلني فكرة واحدة, كيف أصنع شيئًا خاصًا بي؟ كيف أكون مُتميّزًا وسط كل هذه الفوضى؟
لم أستطع منع عقلي من السفر في عجائب التاريخ, إلى ما قبل الميلاد, المجتمع لم يلعَن بارازيوس حين قام برسم العاهرات,مُخترع البورنوغرافيا الذي أحبّ تيودوتيه العاهرة ورسمها عارية, كيف يكون منبوذًا في دولة يقوم أباطرتها بِمُضاجعة الغلمان والصِغار!
كان همنغواي له أسلوبه الخاص, وقد فعلها بطريقة مُميزة. كان هذا تعليق بوكوفسكي على طريقة انتحار همنغواي عندما نسف رأسه بالمُسدس وتناثرت دمائه على الحائط. همنغواي فعلها بشجاعة, عكس ألبير كامو, فيلسوف العدمية الذي كان مُتأثرًا بفلسفة شوبنهاور ونظرته إلى الإنتحار, لكنه مات في حادث, مات بطريقة عادية غير مُميزة, ألبير حاز على نوبل بفارق صوت واحد عن كازانتزاكيس, حدث اعتبره الكثيرين سرقة, كازانتزاكيس كان الأحق بالجائزة وقد اعترف كامو بذلك.
التاريخ مليء بالغرائب والتناقُض, أسماء خُلّدت في الذاكرة, أسماء لم يكن يعلم أصحابها بأن أفعالهم ستبقى. كارل أوروف لم يكن يعلم بأن تحفته الخالدة كارمينا بورانا ستخلّد وتبقى رغم سقوط النازية ودخول الحلفاء برلين, تحفة حفرت مكانها في تاريخ الموسيقى ويستمتع بها العالم حتى يومنا هذا.
التميُّز لَعنة, هَوَس أصاب العقول والأقلام, الشُهرة تَسوق الناس نحو الجُنون, تدفعهم بهمجية إلى الإختلال والإنحلال, العالم يُهرول نحو الشاشة الكبيرة, نحو لفت الأنظار والإهتمامات, العلم يغرَق في العبَث والضلال, النجاة في التمسُّك بالعقل والإرادة.
أريدكِ يا إيميلدا أن تُخلّدي اسمي في ذاكرتِك وتاريخك, أمّا تاريخي فأنتِ بالفعل مُخلّدة فيه, بل تمتلكينه وتستحوذي على كل ما فيه, أنتِ بالنسبة لي ... حياة جميلة رغم قِصر أوقاتها.