ذهبت هند لتشتري الحلوى من البقّال العجوز الذي لا يكُفّ عن قراءة كتُب التاريخ، تمشي بمرح كأرنب صغير يتقافز على العُشب، وبأناملها الرقيقة تُداعب النسيم البارد، تبتسم في وجوه العابرين ببراءة، تلوّح لهم بلطافة تُثير الإعجاب، يضحك لها المارّة ويستمدّون من ضحكتها طاقة تفاؤل تسري في أرواحهم.
هند في الثامنة من عمرها، لون عينيها كلون الزيتون الأخضر، شعرها الفاحم القصير بالكاد يُلامس كتفيها، ترتدي ملابس مزركشة بالزهور والألوان، تُلقي السلام على البنايات والرصيف والأشجار، وكل شيء حولها يردّ عليها السلام، أشعة الشمس تعانق وجهها فتتوهّج أكثر، كأنها ياقوتة ملوّنة سقطت من السماء.
تقف هند أمام العجوز وتُشير على الحلوى، يبتسم العجوز ويترك كتابه الضخم، يضع لها الحلوى في كيس صغير وهو يُخبرها بأنها ستكون طبيبة جيدة.
تضحك هند بخجل، وبفطرتها النقية التي لم تتلوّث، تقول في براءة: سأُداوي كل الناس مجانًا.
تتحدث هند ومن عينيها يشعّ الأمل، صوتها يملأ الدنيا بهجة ولطافة.
وقبل أن ينتهي العجوز من تحضير الحلوى، تمرّ من أمام هند فراشة، وهند تعشق الفراشات، بتلقائية هرولت الطفلة خلف الفراشة، تجري وتضحك، ابتعدت بضعة أمتار وهي تُلاحق الفراشة.
وفجأة !!
سقطت الفراشة ميّتة، وقفت هند أمامها تنتظر تحليقها من جديد، لكن الفراشة لم تتحرك.. لم تُحلّق. اختفت ابتسامة هند وانطفأ وهج عينيها، تساءلت: ماذا حدث؟
نظرت لأعلى فلم تجد السماء، أخفتها الغيوم السوداء، وتكاثر الضباب حولها، لم يكن ضبابًا بل كان دُخانًا كثيفًا يتصاعد وينتشر.
نظرت خلفها فوجدت الدكّان الصغير يحترق، وبشجاعة هرولت ناحية الحريق لتُنقذ البقّال العجوز، لم تخش النيران ولم تخف من الطائرات التي تحوم فوقها كالغربان، دُمّر الدكّان واحترقت البضائع، ورأت العجوز مُلقى وسط أشيائه المُبعثرة، غارقًا في دمائه المتناثرة؛ وفي يده كيس الحلوى، اقتربت منه.. نادت عليه.. لم يرُدّ، مدّت يدها الصغيرة وأخذت كيس الحلوى، ثم وضعت في كفّه النقود وخرجت.
الشارع الكبير قد تغيّرت ملامحه، البنايات تهدّمت والأشجار قد احترقت، الركام تكوّم على الأرصفة والأسفلت امتلئ بالحُفر، الشمس غابت والشارع أصبح خرِب.
مشَت هند نحو بيتها، تتلفّت حولها مذهولة وترَى الدمار الذي نزل على الشارع فجأة.
وصلت هند الى البناية التي تسكنها، لم تجد سوى كومة عملاقة من الركام، وقفت على الأنقاض تبحث عن أهلها، أبيها.. أمها.. أخيها.. أختها، نادت عليهم جميعًا، لم يُجب أحد، بحثت عنهم، لم تعثر إلا على أشياء تخصّهم، حقيبة أبيها.. حذاء أمها.. كراسة أخيها.. فستان أختها، لملمت أشياءهم لتحتفظ بها كتذكار.. كذكرى.
تجوّلت بين الخراب لعلّها تجد أحدًا مازال حيّا، لكنها لم ترَ سوى أشلاء كثيرة مُبعثرة، هذه ذراع سُهى.. وهذه ساق عُمر.. وهذه رأس خالد، هؤلاء هم أصدقاؤها في الفصل، سُهى كانت تتمنّى أن تُصبح صحفيّة، عمر كان يريد أن يكون لاعب كرة، وخالد كان يرغب بأن يكون مهندسًا، احترقت أحلامهم ودُفنت تحت الأنقاض.
لم تبكِ هند، جلست بهدوء وصمت أمام الأنقاض بعدما جمعت أشياء عائلتها وأشلاء أصدقائها ووضعتهم أمامها، في يدها كيس الحلوى المُلطّخ بالدم وفي قلبها ألمٌ عظيم يكفي العالم كله، رفعت رأسها إلى السماء تسأل الله:
يا الله؛ أهلي ماتوا.. فمن سيعتني بي؟ مع من سأعيش؟
يا الله؛ أصدقائي ماتوا.. فمع مَن سألعب؟!