*************
تحركت جموع المصريين فى أحد شوارع الأسكندرية تشيع جثمان أحد نسورها البواسل و قد اختاره الله شهيداً فى أواخر عام 1967 . تحرك الجميع لوداع البطل الذى افتدى وزملاؤه مصر فى أقسى الأيام وأمرها ..
ومن بين الجموع الغفيرة بدا رجل أسمر الوجه ، فى العقد السادس من العمر ، يرافقه ولده طالب كلية الشرطة ، يفصله عن التخرج عام .. انطلقا سوياً لوداع البطل ، وفى الوقت ذاته انطلقت أحزانهم من مكمنها كما لو كان يشيعان سعيد ...
لم يكن الرجل سوى الفنان التشكيلى العالمى النحات أحمد عثمان وابنه الطالب محمد شريف ..
إنها لحظات هى الأكثر قسوة وإيلام ، لكنها لم يكونا على استعداد للتأخر عن واجب تشييع الشهيد ... ولا سيما أنه شهيد طيار ، والأكثر .. إنه دفعة الشهيد سعيد ، الدفعة 17 طيران ، وهو الصديق القريب إلى قلب سعيد .. إنه الشهيد طيار محمد حمدى محارم ...
فى 5 يونيو ... استشهد سعيد ، وفى أواخر العام نفسه استشهد حمدى .. لم يتسنى لهما وللجموع أن تشيع سعيد ، حيث ذابت بطولته وبطولات رفاقه الطيارين فى أوجاع يونيو ..
تعلقت نظرات كليهما بالنعش وبدا كل منما كما لو كان يبعث بنظراته رسالة إلى سعيد .. تحية وسلاماً إليه أبلغه يا حمدى .. فحتماً ستلتقيان ...
حلقت الذكريات حول الأب الفنان أحمد عثمان ، تذكر يوم مولد سعيد فى اليوم الثلاثين من شهر نوفمبر عام 1945
، يوم أن رزقه الله بالابن الثانى بعد أمير ، وقرر أن يسميه سعيد ..
تذكر كيف عاش ابنه طفولة هانئة هادئة ، وكيف كانت حياته تتسم بالجدية منذ صغره .. لم يقض أوقات فراغه فى لعب كرة القدم كما كان يفضل الكثير من أقرانه ، وإنما قضاها فى القراءة أو الرسم ، كانت رسوماته وتلوينه من الروعة التى يعجز عن وصفها ، كما لو كان ورث فن الرسم عن والده الفنان الكبير ..
ارتسمت ابتسامة خفيفة على وجه الوالد وهو يتذكر كيف كان ابنه سعيد مولعاً بالطيران ، وكانت كلية الطيران هدفه الأول والأخير ... حتى أنه لم يقدم أوراقه إلى الحربية مع الطيران كما يفعل كثير من الشباب .. وأصر أن تكون الوجهة إلى الجو .. إلى السماء المحرقة ..
وفى الدفعة 17 عرف بالجدية ، والطيبة .. لا يتوان عن مساعدة الآخرين ، لم يكن طموحه التخرج وحسب ، بل التفوق ، وعليه فقد نال رتبة شرفية وهى رقيب أول الفصيلة ... سعيد أحمد عثمان
وفى صيف 1966 توجها سوياً لحضور حفل تخرج نسور الدفعة 17 ، حضرا لتحية النسور الأبطال... وحضرا اليوم معاً كما تلك الجموع لتحية الشهيد ..
كانت نفس الفنان أحمد ملؤها الفخر بولده الطيار ، راقب وشريف نسور الدفعة 17 وهم فى اصطفاف فى طابور العرض ، لحظة تخرجهم ، تشق أصواتهم عنان السماء وهم يرددون القسم : (( ومحافظاً على سلاحى ... لا أتركه قط .. حتى أذوق الموت ،، والله على ما أقول شهيد . )) .
لاح أمام شريف صورة شقيقه سعيد وقت أن توجه لزيارته فى كلية الشرطة ، شكا لسعيد المعاملة الجافة وقسوة التدريب ، وقد فوجىء بشقيقه يتحدث إليه بكل جدية وحزم مطالباً إياه بتحمل المسئولية و أن يكون على قدر كبير من الصبر والإصرار ..
بدا أمامه فى شوارع الأسكندرية ، بصرت عيناه سعيد بالقرب منه ، كان شريف ينتظر دوره لدخول السينما ، لمح شقيقه الأكبر ، نادى عليه وصافحه بحرارة ,, طلب منه أن يدخل معه السينما ،لكن طلبه قوبل بالرفض القاطع ، رجاه أن يتوجه معه إلىى المنزل وللمرة الثانية يرفض سعيد رجاء شقيقه ، مخبراً شريف أنه سيتوجه إلى القاعدة الجوية ...
شريف : هو فى حرب يا سعيد ؟؟
سعيد : إن شاء الله فى حرب
تصافحا وتعانقا بحرارة ... ولم يدر بخلد شريف أنها المرة الأخيرة حيث يلتقى سعيد ويصافحه ...
وفى قاعدة المليز ، كان العمل يجرى على قدم وساق ، الطوارىء أعلنت فى 14 مايو .. رحى الحرب تدور بسرعة ... بل بأسرع ما يكون ... الرئيس عبد الناصر والمشير عامر وشمس بدران يتوجهون إلى قاعدة المليز ,, يجتمعون بالنسور .. للاطمئنان على الجاهزية ورفع الروح المعنوية لدى الطيارين ..
الأبطال علاء بركات ، الجريدلى ، محمود عبد الدايم وعبد الرحيم صدقى ، وسعيد عثمان وغيرهم ، جميعهم على أتم الاستعداد ..
لم تمض أيام حتى جاء الأمر بانتقال بعض الطيارين إلى قواعد أخرى ... فيما استمر سعيد فى مطار المليز ..
لم يحمل سعيد فى قلبه أحلاماً تتعلق بشخصه ... فلا حبيبة يفكر بها .. إلا مصر .. ولا موعد أتفق عليه إلا ملاقاة العدو والذود عن سمائها ، إذ أن ذلك أسمى معانى الشرف بالنسبة له ..
دارت رحى المعركة سريعاً ...
وحل يوم الخامس من يونيو .. أقسى الأيام وأطولها على مصر والمصريين ..
خرج سعيد فى تشكيل لحماية المطار ( مظلة ) .. وما إن هبط بالطائرة حتى توجه إلى الميس لتناول الإفطار ...
وفى تلك اللحظات ، بدأ العدو الآثم يدك قاعدة المليز بطائراته
يسمع سعيد أزيز طائرات العدو .. يركض مسرعاً ليذود عن قاعدته ...
طائرات العدو تتغول وتدمر الممرات ليصبح الإقلاع منها انتحار بكل تأكيد ..
أصوات الأنفجارات تدوى ، والنيران تلتهم الطائرات ..
و بأعلى صوته يصيح سعيد فى الفنيين قائلاً : (( دور الطيارة )) ...
4 طائرات ميج 21 تحاول الإقلاع للدفاع عن المطار ، يصيب العدو طائرتان منهما قبل الإقلاع ويقفز الطيارين منها ...
ينجح سعيد وزميله فى الإقلاع رغم الممرات المدمرة ... لكن سرعان ما أصيبت طائرة زميله وهبط بالمظلة ...
ويقلع سعيد وحيداً ليلاقى العدو ... فى الإقلاع الأخير ...
12 طائرة معادية ... وطيار مصرى وطائرته ...
كان سلاح الطائرات المعادية القنابل والصواريخ ، وكان سلاح الشهيد فى مواجهتهم الحق وعدالة قضيته ...
نجح سعيد فى تفرقتهم مرة واثنان ...
لكن الشهادة كانت قدره المحتوم فى إقلاعه الأخير ..
استشهدالملازم سعيد فى المليز ..