مشهد جلل حمل فى مضمونه الكثير ، جسده الأديب أسامة أنور عكاشة فى رائعته ليالى الحلمية ، ورغم ما كان يحمله من دلالات إلا أننا لم ننتبه إليه أو نشعر به إلا بعد عشرات السنين حينما تحقق ، كان مضمون المشهد وما حدث فيه أن فوجىء أهل الحلمية وفوجىء ناجى السماحى نجل الشهيد طه السماحى بمجىء موظفان اقتلعا لافتة اسم الشارع ( شارع الشهيد طه السماحى ) ووضعا بدلا منه لافتة ( شارع السلام ) ،، عبثاً يحاول إقناعهم أن الشارع باسم والده الشهيد ، لكنهما عبد المأمور ، يتماشى اسم الشارع مع رحلة جديدة بدأتها مصر وهى مرحلة السلام مع العدو الإسرائيلى !!
وبالأمس القريب فى مصرنا العزيزة التى تحتفى اليوم بأبطال النصر وتحتفل بأكتوبر المجيد ، فوجىء أهالى شارع الشهيد طلال سعد الله ، الكائن بحى العمرانية حيث نشأ الشهيد وتلقى تعليمه ، فوجئوا بنزع اللافتة التى تحمل اسم الشهيد طلال سعد الله ..
والحقيقة أن تلك الفجيعة إنما تعكس أزدواجية معايير فى دولتنا الموقرة ، فكيف يحتفلون بالنصر وتخلد الصحف الأبطال يوم 6 أكتوبر ، وفى الوقت ذاته يجرؤ ذوى الثقة من المسئولين ويقرر استبدال اسم شارع الشهيد ، بعد 48 عاماً من استشهاده .
والعجيب أنه فى الوقت الذى تكرم فيه الأمم أبطالها وتخلدهم فى مناهج تاريخها وتصنع الأفلام وتسطر الكتابات عن شجاعتهم يأتى مسئول ما ويقرر أن يمحو اسم شهيد جاد بروحه فى سبيل أن تحيا مصر ويحيا هو والأجيال الجديدة ، فهل رأينا أمة فى العالم يهبها رجالها الحياة ، وفى المقابل لا يجدوا من المسئولين إلا الجحود والنكران !! يحدث هذا فى مصر فقط ..
فهل يعنى ذلك فى دلالته أن نمحو تاريخ الاستنزاف وأكتوبر وبطولات أبطالهم وأن نكتفى بحربنا الدائرة على الإرهاب ؟
بالتأكيد أن ما يحدث اليوم من إزالة لافتة اسم الشهيد طلال سعد الله من الشارع الكائن باسمه ، ما هو إلا نتاج الفوضى والسطحية التى تعامل بها المسئولون فى التربية والتعليم والإعلام والثقافة مع الشهداء والأبطال ، فنشأ جيل لا يدرك معنى الشهادة ولا تضحيات الشهداء ، ولا يدرك قدر الأبطال وصنيعهم ، فالحرب درسها الأجيال بضع كلمات أو سطور فى منهج الدراسات ، أو بضع صفحات فى منهج تاريخ الثانوية العامة وخلا المنهج من روح البطولة وقصص الأبطال .
وإذا كان لنا أن نسير على نهج صحيح فلا أقل من أن يعود الشارع باسم الشهيد وأن تتخلل مناهج التعليم فى السنوات القادمة قصة بطولته وغيره من الشهداء .
وحينما نطالب بذلك فإننا لا نطلب منة من المسئولين بل هو حق الشهيد وقد انتزعه القائمون على الأمر بلا أدنى دراسة ، أو مبالاة ..
هل خلت الشوارع فى مصر فقرروا نزع اسم الشهيد طلال الذى جاد بحياته يوماً ما من أجل مصر وشعبها ؟
ولا شك أن مكانة الشهداء ومقامهم أكبر بكثير من لافتات الشوارع والمدارس ، ولكن لا يفوتنا أن نهج تكريمهم ارتبط منذ عقود باطلاق أسمائهم على الشوارع والميادين والمدارس ، كما لا يفوتنا أن نزع لافتة تحمل اسم الشهيد وإن كان الأمر لا يضر الشهيد فى شىء إلا أنه يسبب الكثير من الألم لأسرته وأصدقائه ومحبيه ، الذين يشاهدون بأعينهم ما يحدث من تنحية أسماء من ذادوا عن الوطن ، ولم يبخلوا عليه بالروح أو الدم ، حتى يأتى بعد عقود من لا يبالى بهم أو بتضحياتهم ، ويبخل على أعينهم أن تلمح اسم الشهيد على لافتة الشارع أو المدرسة ، فتتأرجح ذكرياتهم معه فى عقولهم .
يثيرون فى عقول أهالى الشهداء الأوجاع والأحزان ، كما يطرحون فى أذهانهم سؤالاً يلح عليهم بشدة ، أهؤلاء الذين قرر أن يضحى الشهيد بحياته من أجلهم فى زمن ما ؟ هم الآن يضحون باسم الشهيد فى واقعة تثير الريبة والشك بمدى إدراكهم بقيم الوفاء للشهداء المخلصين لأوطانهم حتى آخر رمق .
ببساطة إن كان القائمون على الأمر تناسوا أو جهلوا بطولة الشهيد طلال سعد الله ، يمكننا أن نذكرهم أنه ذاك الطيار الباسل الذى دك مواقع العدو وحينما أصيبت طائرته أثناء العودة قعقد العزم على ألا يصير أسيراً لدى العدو ، وقرر أن يقتحم بطائرته موقعهم ،، فيلقى ربه شهيداً ، ويصرع عدوه قتيلاً .. ويحيا الوطن ،، ويحيا حتى يتولى زمام الأمور فى الحى المقصود من لا يعرف التاريخ ولا يعترف بالشهيد إلا فى مواسم الاحتفالات بالنصر !
إن البطولات التى يسطرها شهدائنا اليوم ما هى إلا امتداد لبطولة الشهيد طلال وآلاف من الشهداء ، كانوا ولا زالوا قدوة لأبطال جيشنا بلا أدنى شك .
ولا أعتقد أن عدونا كان يتمنى أكثر مما يقدمه أهل الثقة فى مصر ، لتخلو شوارعنا بمرور الوقت من أسماء الشهداء تماماً كما خلت مناهج التعليم منها .
وإن كان مشهد استبدال اسم الشهيد طه السماحى من الشارع يحمل دلالة توجه الدولة نحو السلام مع كيان العدو فهل يحمل استبدال اسم الشهيد طلال سعد الله فى دلالته علامة على أن الأهمية القصوى الآن لحربنا على الإرهاب وأن علينا أن نتناسى سنوات الصمود والقتال ؟ وأخيراً إذا كان الأمر كما يبدو فإننا نبشر المسئولين أن تاريخ وبطولات الاستنزاف وأكتوبر المجيد سيظلان القاعدة والركيزة التى يستند عليها وإليها أبطال جيشنا اليوم ..