بير شمس تزحف نحو النور
***************************
التعليم في بير شمس، اهتم أجدادنا الاوائل بالتعليم أبنائهم، رغم التحديات التي كانت تواجههم في تلك الأزمان والتي كان من أهمها الكهرباء، التي لم تدخل قرى الدلتا إلا في خمسينات القرن الماضي،
ومع ذلك لم تكن عائقا أمام طموح الفلاح البسيط أن يعلم أولاده، إيمانه منه وإدراكا أن العلم نور وأنه المستقبل الحقيقي لنهضة شاملة تعم الوطن كله، وأنه المسار الذي يرفع من مكانة أبنائه ويجدوا من خلاله سندا لهم في الحياة.
لم تكن الكهرباء وحدها تمثل المشكلة أمام التعلم، فقد كان الطلبة يسافرون يوميا، لمسافات بعيدة، والطرق غير ممهدة، والرزق محدود، كما كان هناك تحد أكبر وهو كثرة عدد الأبناء، ظنا منهم أن الكثرة عزوة، ومع هذا أرادوا لهم الأفضل، ولو واجهوا قسوة الظروف وتجاعيد العالم.
بدأ التعليم في القرية من خلال الكتاتيب، يجلس الشيخ في الحلقة وحوله الاطفال، يعلمهم القرآن الكريم، يحفظونه منه بالتلقين، لم يتوقف دور الكتاتيب عند تعليم القرآن فقط، بل كانت الركيزة الأساسية بعد الأسرة في تعليم الأخلاق والقيم والفضائل واحترام العادات والتقاليد، ولقد أعطي الأجداد لشيخ الكتاتيب كل الصلاحيات لدرجة أن الأطفال لا يمكنهم الشكوى من معلمهم، فكان لزاما عليهم التعلم وتحصيل القدر الأكبر من الشيخ، وكان الأب يباهي بابنه لو أنه ختم القرآن، وكانوا يعتبرون أنفسهم أنجزوا إنجازا عظيما وأن الله تعالى اختصهم ببركة كبيرة أن صار في بيتهم من يحمل كتاب الله تعالى، وفطرة وطبيعة افتقدناها هذه الأيام وإذا كان هناك من هو حريص منا على تحفيظ أبنائه أيات القرآن الكريم، إلا أنها أبدا لم تكن بذات اللهفة الكبيرة والشغف القديم.
وكان من الأجداد الأوائل الذين حصلوا العلم بعد الكتاتيب والمدرسة الإبتدائية، الحاج عبدالفتاح عبدالمعطي موسى، الذي حصل على العالمية الازهرية، وتسلمها من الملك فاروق شخصيًا، وهي التي تعادل الدكتوراه اليوم، كما وجدت نماذج كثيرة ومشرفة حصلت على شهادات علمية وأزهرية، وأنارت دروب القرية الصغيرة، وجعلتها تتباهى كعروس وسط القرى المجاورة، نماذج أزالت ظلام الجهل، وتحملت الكثير من الصعاب، كي تنعم بشمس العلم، التي تنشر نورها في بير شمس.
كان هناك كذلك الحاج زكي شجاع الدين، والحاج السيد متولي، والحاج عبدالرؤوف النادي، والحاج عبد الرحيم موسى، والحاج فهمي لاشين، وغيرهم ممن نعتز بانتمائنا لهم، ونرجو أن نقبل أياديهم احتراما وتبجيلا لما تحملوه وتكريما لدورهم في تحقيق نور العلم الذي أضاء القرية..
ولم يكن هذا الجهد ممكن تحمله الرجال فقط بل كانت المرأة لها حضورها في هذا الكفاح العلمي المبكر، وهذا ما أذهلني، فقد تعليم الشباب في هذه الظروف الصعبة أيسر من تعليم الفتيات، لكن الإرادة التي تمتع بها أجدادنا جعلتهم يرفضون كلمة مستحيل، ويحرصون على تعليم الفتاة كما تعليم الفتيان.
لقد ذهبت هذه الفتاة إلى معهد داخلي في منوف في عام 1941 تقريبا، تعلمت الطب، وكانت أول فتاة تتعلم، وعندما أنهت دراستها الشاقة التي لم تكن تلتقي فيها بأسرتها إلا مرتين سنوياً مثلا، رجعت إلى القرية تحمل شهادتها في طب النساء والتوليد، كانت منارة في قلب بير شمس، يرسل إليها العمدة من القرية المجاورة غفيرا يحرسها حتى تتم مهمتها ويعيدها معززة مكرمة، هذه السيدة هي جدتي، الحاجة منصورة، التي أفتخر بتاريخها وجهدها المشرف ومثابرتها في تلقي العلم، ودورها البارز في قريتنا والقرى المجاورة.
كم أتمنى أن يكون لها تمثالا اعترافا بجميلها وتخليدا ليد الخير التي حملتها لأبناء جلدتها، والتي تتمثل في ابنها الدكتور سيد..
نحن حقيقة في حاجة إلى تكريم رموزنا وتعريف الأجيال الحاضرة بهم وبدورهم وبما كانوا عليه من همة وجلد.
عرف أجدادنا فضل العلم فرفعوه فوق الرؤوس وجعلوا حامل العلم كالبدر في السماء يهدي النجوم نوره، رحم الله الجميع، وشهادة حق في أثناء بحثي وهي أنني كنت أشعر بالفخر والاعتزاز.. شكرا للأرض الطيبة التي أنبتت بذورا صالحة، وشكر للأم المكافحة التي تحملت من أجل أبنائها.
كما أتوجه بالشكر لكل من يهتم بالعلم والعلماء في القرية، خصوصا تعليم القرآن الكريم..