قراءتي حول القصة القصيرة (عود على بدء)
للكاتب التونسي/ عباس بن صالح بن محمد سليمان
أولا: النص.....
(عودٌ على بدءٍ)
.............
العاشرة ليلا:
- تعاليْ يا سعيدة، أنا في انتظارك.
أمدّ يدي إلى النّار التي عهدتُ إليها بطبخ وجبة أكل سريعةٍ فأُسكتها ثمّ أهبّ إليه لأُسكت ناره. أقف أمام المرآة أسوّي فوضاي وأستبدل على عجل لباس المطبخ بلباس النّوم وأتمدّد بجانبه. أترجّاه أن يسمح لي بدقائق قليلة أستردّ فيها أنفاسي قبل أن يشرع في نهشي.
السّادسة صباحًا:
أنهض مذعورة كما اعتدت أن أنهض كلّ يوم... قبل ذلك، يعاودني على امتداد اللّيل الاستيقاظُ من ساعة إلى أخرى مخافة أن يكون الفجر قد طلع. أوقظ ابنتي "مليحة"، أتابع نظافتها وملبسها وأهيّئ لها فطور الصّباح ولمجة المدرسة ومحفظتها ثمّ أوقظ أباها وآخذ في تهيئة نفسي.
أترك مليحة في عهدة أبيها ليرافقها إلى مدرستها وأغادر البيت في اتّجاه محطّة الحافلات.
في الحافلة:
أبذل جهدا كبيرا من أجل الصّعود... أندسّ بين الرّكّاب وأظلّ أبتلع على مضض روائح نومهم وعطرهم وتبغهم وعرقهم على امتداد نصف ساعة قبل أن أنزل بجانب مخبزة حيّ السّعادة لأتزوّد منها بخبز ساخن لأسرة السّيّد مختار وحرمه السّيّدة نبيهة.
السّابعة والرّبع:
أتسلّم الولديْن من فراشها فأهيّئهما ثمّ أُعِدُّ وجبة الإفطار وأقف قريبا من السّيّد والسّيّدة وولديْهما في انتظار طلباتهما الإضافيّة.
يغادر الأربعة مسرعين فيفتح أمامي البيت فَمَهُ واسعًا كَغُولٍ ضخمٍ وأشعر كما أشعر كلّ صباح أنّ أبواب جهنّم تناديني. أنهمك في ترتيب الغُرف وفي المسح والتّنظيف ونفض الغبار وغسل الماعون وإعداد الأكل وإطعام الكلب والقطّة والعصافير إلى أن أشعر أنّي أموت.
منتصف النّهار:
أعلّق كلّ الأشغال وأهرول نحو مدرسة الولديْن... أقف بالباب مصوّبة عينيّ نحو الأطفال الخارجين يتجارون من أقسامهم، التقط "العفيف" و"صامد"، أجعلهما تحت جناحيّ ونعود إلى البيت.
السّاعة الواحدة:
يجتمع الأربعة من جديد فأسارع بترتيب طاولة الأكل ثمّ ألازم الوقوف قريبا منها منتظرة أيّ طلب إضافيّ.
بعد انتهائهم من وجبتهم، أسترق قليلا من الوقت لألتهم واقفة ممّا تركوا ما يهيّئني لأشغال العشيّة قبل أن أنهمك في غسل الصّحون والملاعق وإعادة ترتيب المطبخ.
السّاعة الثّالثة:
أنتهي من تهيئة الولديْن للخروج إلى نواديهما، أرافقهما إلى أن يركبا السّيّارة من جديد مع أبيهما وأمّهما وأعود إلى جهنّم.
السّاعة الرّابعة:
أشرع في إعداد وجبة العشاء وفي غسيل الملابس وفي رعاية العصافير وفي سقي الحديقة إلى أن أسمع صوت السّيّارة فأسارع إلى المرآب أفتحه وإلى الولديْن أرافقهما إلى غرفتهما وأشرف على طلباتهما الجديدة.
بين العاشرة ومنتصف النّهار، أو بين الثّالثة والخامسة مساء:
تَصِلُنِي بمعدّل ثلاث مرّات في الأسبوع على الأقلّ رنّة هاتف أعرف جيّدا صوتها المميّز فأترك كلّ الشّؤون مُعَلَّقة وأسارع إلى غرفة نوم السّيّدة "رتيبة"، أقف أمام المرآة مرتبكة وأمدّ يدي إلى ما حواليْها بخجلِ من يمدّ يده إلى شيء لا يمتلكه... أسوّي هيئتي وأنشر شعري وأتعطّر وأقف في انتظار مجيء صاحب الرّنّة... يدسّ السّيّد "مختار" في يدي علبة شوكولاطة أو بطاقة هاتف أو ورقة من فئة العشرة دنانير ويشرع في أخذ مقابلها بنهمٍ شديد.
السّاعة السّادسة:
أقبّل الولدين وأسرع نحو محطّة الحافلات، أبذل جهدا لأتمكّن من الصّعود، أندسّ بين الرّكّاب وأظلّ أبتلع على امتداد نصف ساعة روائح التّعب والتّبغ والكحول والعرق والبؤس... عندما يطلّ البيت الّذي نسكنه على وجه الكراء، أتذكّر أنّني لم أفكّر بابنتي "مليحة" منذ الصّباح فيُجهز عليّ البكاء.
أشرع في تجهيز وجبة عشائنا وفي مساعدة البنت على إعداد دروسها وأنا أقسم برأسها ألّا أعود أبدا إلى دار السّيّدة "رتيبة".
العاشرة ليلا... السّادسة صباحا ... السّابعة والرّبع... منتصف النّهار... الواحدة... الثّالثة... الرّابعة... ين العاشرة ومنتصف النّهار أو بين الثّالثة والخامسة مساء... السّادسة مساء... العاشرة ليلا...
_.._.._.._.._.._.._.._.._
ثانيا: القراءة......
. ....... ............. ..
يناقش النص قضية أنثوية بحتة وهي قضية استغلال الرجل للمرأة، والمفارقة أن يكون السرد بقلم ذكر، فهل سينصفها؟ هذا ما سنحاول إيضاحه في السطور القادمة...
يضعنا الكاتب في حيرة عجيبة تجعلنا نتساءل هل المرأة هنا مجني عليه أم جاني؟.. مظلوم أم ظالم؟ .. ضحية أم مجرم؟
فالبعض قد يراها ضحية لسيطرة وظلم واستغلال الرجل ولكننا نفاجأ أن الكاتب يشير من طرف خفي إلى اشتراك المرأة في ترسيخ الظلم الواقع عليها، بل أنها دعمته ومنحته شرعية برضوخها واستسلامها له بل والاستمتاع به في بعض الأحيان حتى صار اعتيادا رتيبا لا يتخلله ضجر ولا ملل بل الأدهى من ذلك أنها أصبحت تسعى نحوه وتنتظره.
دعونا نفند أحداث القصة لنرى هل سنثبت صدق ما طرحناه أم أن بطلتنا ستمحوه بجرة قلم.
أولا: العنوان" عود على بدء" يحمل دلالة على التكرار مع الاستمرار، ووضعنا على أهبة الاستعداد لمتابعة حكاية رتيبة يشوبها الملل كما هو الحال في كل شيء يتكرر بغير تجديد أو تغيير، لكن الكاتب يفاجئنا أن الأمر لم يكن مملا بالنسبة للبطلة عندما يقول " أنهض مذعورة كما اعتدت أن أنهض كلّ يوم... قبل ذلك، يعاودني على امتداد اللّيل الاستيقاظُ من ساعة إلى أخرى مخافة أن يكون الفجر قد طلع" وإن كانت العبارة توحي في ظاهرها بالخوف والقلق ولكنها تحمل بين ثناياها الانتظار.
استطاع الكاتب ببراعة أن يجذب انتباهنا للأحداث لنتابعها بشغف دون الشعور بأي ملل فيبدأ القصة بجملة حوارية يذكر فيها اسم البطلة "سعيدة" فيوحي لنا من خلال اسمها بشعور جميل نحسدها عليه لظننا أنها تحيا حياة سعيدة إيمانا منا بأن لكل انسان حظ من اسمه، وقد يجول بخاطر القارئ أن منبع هذه السعادة هو تلك العلاقة الطيبة التي بين الزوجين البادية في هدوء نبرة الزوج وهو يناديها " تعالي يا سعيدة أنا في انتظارك" جملة هادئة رصينة واثقة تحمل بين ثناياها شعور بلهفة معتدلة عاقلة من شخص متزن يعرف قيمة المرأة التي معه. لكن الكاتب لم يتركنا نهنأ بهذه الفكرة الطيبة ليقوم بهدم الصورة سريعا لتتبدل في أعيننا صورة" سعيدة " إلى صورة امرأة تعيسة مغلوبة على أمرها منهكة ولا أحد يرحم ضعفها، وتتبدل أيضاً صورة الزوج من الرصانة والمودة والاتزان إلى صورة وحش أناني ينهشها بلا رحمة أو شفقة.
جاءت القصة على لسان بطلتها تسرد لنا أحداث يومها المكررة بدقة متناهية فتذكر الحدث في وقته بالساعة والدقيقة دليل على الوعي الكامل لكل لحظة تمر بها.
واللافت أن السرد جاء خاليا من أي شعور إلا في ثلاث لقطات سريعة وهي ( ١_ أترجّاه أن يسمح لي بدقائق قليلة أستردّ فيها أنفاسي قبل أن يشرع في نهشي
٢_ أقف أمام المرآة مرتبكة وأمدّ يدي إلى ما حواليْها بخجلِ من يمدّ يده إلى شيء لا يمتلكه
٣_ أتذكّر أنّني لم أفكّر بابنتي "مليحة" منذ الصّباح فيُجهز عليّ البكاء.) وجاءت بكلمات بسيطة وقليلة( اترجاه تصور حالة ضعفها
مرتبكة، خجل تصور حالة خوفها
أجهز علي البكاء..حالة من تأنيب الضمير)
وهذه التعبيرات القصيرة المقتضبة جعل الأمر بدا غير مهم بالنسبة لها إلا في لحظة وقوعه فقط.
_استخدم الكاتب الافعال المضارعة مثل ( انهض، اوقظ، ابدل،....) دلالة على التكرار والاستمرار
_ذكر الكاتب أسماء جميع شخصيات القصة بينما جهّل الزوج تماما إشارة منه إلى ضلوعه فيما تعانية سعيدة
_انتقاء الأسماء لها دلالتها فالأسماء الأنثوية تحمل مدلول معاكس لمضمون الشخصية (سعيدة /حزينة ومقهورة_مليحة/ فقيرة ومهملة_نبيهة/غافلة عن شئون زوجها)
ثم يأتي اسم (مختار) الرجل الثري الذي ستختاره أي امرأة مهما كانت فما بال سعيدة.
هناك ملاحظة في اسم زوجة مختار فمرة أتت نبيهة ومرة جاءت رتيبة وكلاهما له دلالته المناسبة للسياق.
_هناك مشهدان حميميان في القصة لسعيدة مع رجلين مختلفين أحدهما له الحق الكامل وهو الزوج والآخر له القدرة والسيطرة وهو مختار بيه، والمشهدان يحملان القهر ذاته والأنانية والاستغلال من كلا الرجلين لكن المفارقة في رؤية سعيدة لكل منهما وأداؤها في كل موقف.
☆مع الزوج ( أقف أمام المرآة أسوّي فوضاي وأستبدل على عجل لباس المطبخ بلباس النّوم وأتمدّد بجانبه) حركات سريعة تدل على عدم الاهتمام او عدم الرغبة. مع ملاحظة ان الباء تدخل على المتروك فالاصح أن تقول (استبدل على عجل بلباس المطبخ لباس النوم)
☆مع مختار بيه (أقف أمام المرآة مرتبكة وأمدّ يدي إلى ما حواليْها بخجلِ من يمدّ يده إلى شيء لا يمتلكه... أسوّي هيئتي وأنشر شعري وأتعطّر وأقف في انتظار مجيء صاحب الرّنّة....) حركات محسوبة فيها تفكر، ووصفها لحركاتها بالارتباك فيه دلالة على الاهتمام، والتعطر فيه رغبة في ابراز الجمال وامتلاك قلب الطرف الآخر أي رغبة في إتمام العلاقة والرضا عنها.
_في اللقاء الأول الزوج هو الذي ينتظر
_في اللقاء الثاني هي التي تنتظر. والمنتظر غالبا هو الأكثر رغبة.
_في اللقاء الاول الزوج يأخذ بلا مقابل
_في اللقاء الثاني هناك مقابل وإن كان زهيدا أمام ما تقدمه سعيدة، إلا ان هناك عائد عليها وغالبا العائد يبرر الفعل.
_في اللقاء الأول استخدمت كلمة (ينهشني) وهي كلمة قوية تدل على الحيوانية.
_في اللقاء الثاني استخدمت كلمة (نهم) وهي كلمة قوية كذلك ولكنها تدل على الجوع البشري.
_في القاء الأول استخدمت جملة (أمد يدي إلى النار... فأسكتها) الفعل أسكتها فيه قوة وانفعال دلالة على عدم الرضا ولكنها مسيطرة على الموقف.
_في اللقاء الثاني ( أمد يدي... بخجل) فيه ارتباك وخوف وكلمة خجل توحي باستيقاظ (لحظي) لضميرها.
في تناول الكاتب لتعامل سعيدة مع الولدين ومع ابنتها نجد أن هناك عاطفة أمومة واضحة مع الولدين ظهرت عندما قالت (أقبلهما) قبل رحيلها
في حين أنها لم تفعل ذلك مع ابنتها، فهنا تهتم سعيدة بالولدين اهتمام مادي مثل التنظيف والاعتناء والإطعام وخلافه... وكذلك تقدم عاطفة ظهرت في التقبيل.
بينما مع ابنتها لم تتكلم إلا عن الاهتمام المادي فقط وهو الإطعام والمذاكرة والتنظيف... وخلافه.
_لم تتذكر ابنتها إلا عندما ظهر أمامها البيت الكئيب ليعيدها إلى حياتها الحقيقة أو يذكرها بأنانيتها وتقصيرها وقبل أن يستيقظ ضميرها تسكته ببعض الدموع التي تذرفها على ابنتها المسكينة.
إذا فنحن أمام ضحية أصبحت مع الوقت جانيا عندما قبلت الظلم وسكتت عنه ثم اعتادته ثم استمرأته فأصبحت مجرمة في حق نفسها وحق ابنتها، لنجد انفسنا أمام نص ظاهريا يرصد معاناة امرأة مغلوبة على أمرها بينما يحمل بين ثناياه محاكمة لها.
دام الإبداع ودام الألق كاتبنا القدير.