الساعة الآن الواحدة بعد منتصف الليل، السكون من حولي يكاد يقتلني... يتسلل الخوف إليّ في هذه الساعة من كل ليلة فيصوِّر لي أشياء لا أعرف إن كانت حقيقة أم هي مجرد خيال، اهترأ قلبي من هول ما لاقاه في الأيام الماضية... أظنني أوشكت على الجنون... أو..أو قد جننت حقيقة! يراودني شعور أنني ميت لا محالة بالسكتة القلبية، ذلك الهمس الرهيف الذي ينساب في أذني في كل ليلة يحكي لي أشياء مرعبة... أسمعه بوضوح... لكنني لا أعرف من أين يجيء، فتارة يأتيني من بين الجدران، وتارة يأتيني من بين صفحات كتاب، وتارة أخرى أشعر بلهيب أنفاس تلفح أذني كأنما ينفث فيهما شيطان... ثم يعود الصوت من جديد إلى صورته الأولى... همس رقيق... ناعم... يخيل إلي أنه همس حسناء صغيرة... هل قلت حسناء؟! نعم... فهي بالفعل حسناء... فلقد رأيتها تتسلل من غرفة إلى غرفة على أطراف أصابع قدميها الرقيقتين...
سأخبركم بما حدث... ولكن أمهلوني دقيقتين ألتقط فيهما أنفاسي المتلاحقة... فدقات قلبي تسارعت الآن وأطرافي أصبحت باردة، جبيني يتفصد عرقا رغم أننا في فصل الشتاء والليلة باردة، ورغم ذلك أشعر كأنما أسير تحت لهيب الشمس اللافح في صحراء قاحلة، مهلا... سأنزع معطفي حتى أستطيع التنفس... ها قد نزعته... الآن أنا أفضل حالا... ولكن... ما زال القلم يرتعد في يدي، حتى حروفي الآن لم تعد مستقيمة كما كانت من قبل، ستجدونها متعرجة... كأنما رأت ما أراه متمثلا أمام عيني فارتعدت هي أيضا.
أكتب لكم لتكونوا على علم بما يجري حولي، أو.. أو لأئتنس بوجودكم فتبددون وحشة الوحدة التي أعيش فيها هنا... رغم يقيني أنني لست وحدي في هذا البيت، لم أكن أرى أحدا من قبل ولكنني كنت أسمع أصواتا تجيء وتروح، تختفي الأشياء من البيت ثم تظهر من جديد، ... آه... لعلكم تأكدتم الآن أنني قد أصابني الجنون!... حسنا... دعوني أسرد لكم الحكاية منذ بدايتها، وأتمنى أن يسعفني الوقت وأنهيها.
بدأت حكايتي منذ عام... عندما استأجرت هذه الشقة في هذا البرج المنشأ حديثا، الحي هادئ بصورة مخيفة لكنني لم أهتم بذلك، فما حدث لي جعلني لا أفكر إلا في أربع جدران تأويني بعدما مررت بتجربة زواج فاشلة استمرت خمسة أشهر... أو خمس سنوات... لا أذكر... أصبح الأمر لدي سواء ما دامت النتيجة هي أنني خسرت فيها كل شيء وأصبحت بلا مأوى.
عندما وجدت هذا المسكن الرخيص رغم فخامته؛ لم أفكر كثيرا في الأسباب التي تجعل شقة كهذه بهذا السعر الزهيد، تنقلي بين اللوكاندات الرخيصة والمقرفة جعلني لا أرى ما رآه كثيرون ممن سكنوها قبلي فلم يستطيعوا البقاء فيها أكثر من يومين.
مرت الشهور الأولى هادئة، لم يعكر صفوي فيها إلا جاري في الشقة المقابلة، كان رجلا غريب الهيئة... به غموض مريب، كان فارع الطول... نحيف بغير مبالغة، له بشرة تميل إلى السمرة، عيناه دائرية كثقبين في جدار خشن، لم تكن بشرته صافية... بل كانت مقرفة للغاية، على وجنتيه أثر إصابة بالجدري تركت بثورا ونتوءات على جلده لم تفلح لحيته القصيرة والمبعثرة في مداراتها، أنفه طويل ومدبب، فمه دائري وشفتاه غليظتان ومزمومتان في وضع التقبيل، لونهما أسود بسبب تدخينه المفرط، شعره رمادي قصير، يرتدي فوق رأسه قبعة ذات حافة طويلة من الأمام تخبئ نصف وجهه فتزيده غموضا، به شبه انحناءة ككثير من فارعي الطول الذين يضطرون للانحناء عندما يحدثون من هم أقصر منهم.
مرات قلائل هي التي لقيته فيها بدون هذه القبعة الغامضة، ولا أذكر أنني رأيته بثياب غير التي يرتديها، معطف من الصوف طويل... رمادي اللون كذلك ومفتوح من الأمام دائما، يظهر تحته قميص أبيض به خطوط طولية رفيعة بلون داكن لم أتبينه و لا تلحظها العين إلا إذا اقتربت منه، ومن الأسفل يرتدي بنطالا رماديا أغمق بدرجتين أو ثلاثة من المعطف، وحذاء رياضي من القماش أسود اللون.
يتراوح عمره بين الخامسة والثلاثين والأربعين عاما.
كان يطرق بابي كل ليلة بعد منتصف الليل ويطلب أشياء غريبة، فتارة يطلب شاكوشا وتارة يطلب مقصا، وكنت أعطيه ما يريد لكنه لا يعيد ما أخذه أبدا، ثم يأت من جديد ويطلبه مرة أخرى، وعندما أخبره أنه استعاره ولم يعده بعد... يقسم أنه لم يفعل، العجيب في الأمر هو أنني أجد الأشياء في مكانها كأنما لم تمس.
ظل الأمر هكذا عدة أسابيع ثم انقطع عني تماما، انقطع بعدما أخذ سكينا مميزا عندي، سكين ذو نصل طويل وعريض، له يد معدنية عليها نقوش بارزة طليت أجزاء منها بماء الذهب، أخذها ولم يعدها، ذهبت إليه كي أستعيدها لأنها عهدة عندي؛ فالشقة قد استأجرتها مفروشة وكل ما فيها ليس ملكي كي أتصرف فيه، طرقت الباب طويلا وما من مجيب، عدت إلى شقتي انتظر عودته، لكنني انتظرت طويلا، ليس ساعة أو ساعتين وإنما أياما طويلة، رحت أراقب شقته ليل نهار ولا أرى أحدا يدخل أو يخرج منها، حتى جاء يوم كنت جالسا فيه على الأريكة في الصالة مواجها لباب الشقة، كانت الأضواء خافتة... اتعمد ذلك لأنني لا أحب الضوء الساطع، المطبخ على يسار الداخل من الباب... مطبخ مفتوح على الطراز الأمريكي، تسلل إلى سمعي صوت حفيف ملابس وصلصلة مفاتيح بالخارج، هممت بالتوجه ناحية الباب لأستكشف الأمر لكنني تجمدت في مكاني عندما وجدت أن أحدا يعبث بمفاتيحه في قفل بابي يحاول فتحه، كان القفل عصيا ولكنه انفتح... ودخل جاري بهيئته المريبة.
كان يحمل في يده كيسا أسودا منتفخا وفي اليد الأخرى شيئا ملفوفا في جريدة، لم يشعر الرجل بأي اغتراب... تصرف كأنه في بيته، يعرف الأماكن ومواضع الأشياء، عندما دخل كانت عيناه مصوبتان نحوي مما جعلني أرتعد من الخوف، العجيب أنه بدا كأنه لا يراني.
اتجه نحو المطبخ... أفرغ ما في الكيس ثم مزق الجريدة وأخرج ما كان ملفوفا بها، كان السكين ذو النصل الطويل اللامع، رفعه أمام عينيه وراح يتأمله للحظات ثم هوى به ...
انتفضت من مكاني كأنما طعنني أحدهم في جنبي، ضوء النهار كان يملأ المكان، الستائر مفتوحة عن آخرها، جنبي يؤلمني من أثر الطعنة... تحسست موضعها بيدي وأنا ارتعد وقلبي يخفق من الخوف، رفعت يدي نحو عيني ببطء، كنت واثقا أنني سأجدها ملطخة بدمائي، هدأت أنفاسي عندما لم أجد شيئا، تلفت حولي... كل شيء في مكانه... حزرت أنه كان حلما مزعجا، نهضت متثاقلا نحو الحمام لأغتسل ثم اتجهت إلى المطبخ، صنعت كوب شاي ووجدت قطعة خبز لطختها ببعض الجبن الأبيض ورحت اقضمها، انتبهت إلى شيء على الأرض، كانت قصاصة صغيرة من جريدة، لا أدري ما الذي جعلني أشعر أنها الجريدة ذاتها التي أحضرها جاري في الحلم، القصاصة مقطوعة بطريقة عشوائية، كان مكتوب فيها كلمة واحدة، الكلمة هي "انتحاره"....