ما الذي جاء بهذه القصاصة إلى هنا؟ لا أشتري الجرائد ولا أحب مطالعتها، تأملت الورقة بعينين ذاهلتين، "لم يكن حلما" قلت في نفسي بتوتر، خرجت من البيت مسرعا وتوجهت نحو شقة جاري، ضربت الجرس مرة... ثم مرة... في الثالثة لم أرفع يدي عن الجرس لولا أن وجدت أحد الجيران الساكنين في الدور العلوي هابطا بهدوء على السلم، وقف ينظر نحوي لبرهة ثم مضى، عجيب أمر هؤلاء السكان، لم ألتق بأحدهم مرة وألقى علي تحية أو أشار لي حتى بيده كأنه يتعمد تجاهلي.
عدت إلى شقتي يائسا أن يجيب هذا الجار الغريب، الورقة ما زالت في يدي، تأملتها ثانية... كلمة وحيدة تحمل لغزا كبيرا... انتحار!... انتحار من؟ وما علاقة هذا الرجل بالأمر؟... كيف دخل بيتي؟... هل هذا كله حدث هنا... في هذه الشقة اللعينة... أسئلة كثيرة راحت تنخر رأسي بلا هوادة... الجو أصبح خانقا بصورة كبيرة... فتحت الشرفة وأخذت نفسا عميقا، لأول مرة منذ أن سكنت هذا البيت أدخل إلى الشرفة وأنظر إلى الشارع من عل، لاحظت أن الارتفاع كبير... كيف نسيت أنني في الطابق السابع؟ وكيف لا أستخدم المصعد أو يستخدمه أحد من السكان؟ لم أعد أذكر أو أفهم شيئا... هل أستخدم المصعد أم السلالم...لا أعرف!... رأسي مشوشة جدا، تأملت الشارع من جديد... الشارع طويل جدا وهادئ... بل خال من الناس تماما... ما الأمر؟ أين ذهبوا؟ أين الصخب الذي اسمعه بوضوح من الداخل؟ هناك شيء خطأ يحدث حولي! لمحت قطا ضخما... أسود اللون إلا جزء في رجله الأمامية كانت بيضاء، عبر الشارع من الجهة التي أنا فيها إلى الجهة المقابلة بخطوات هادئة ومتأنية كرجل يعرف جيدا أين يضع قدمه، صعد على الرصيف الآخر ثم رفع رأسه ونظر نحوي، رأيت عينيه وتقاسيم وجهه القاسية بوضوح كأنما لا تفصل بيني وبينه كل هذه الطوابق، راح يموء مواء هادئا وبطيئا كنذير شؤم... مواء فيه غضب مكتوم، مواء مخيف يشبه النواح سرعان ما تحول إلى حروف متقطعة ثم إلى كلمة يمطها مطا، كلمة أعرفها جيدا وأعرف موسيقاها لكنني عاجز عن نطقها، لم أستطع الصمود أمامه، تراجعت للخلف وأغلقت الشرفة، اصطدمت بالأريكة فارتميت فوقها ونكست رأسي بين كفي وأسندتهما إلى ركبتي، ظل الصوت يتردد صداه في أذني بوضوح، لم أدر كم مر من الوقت حتى سمعت أصوات ملاعق تحتك بصحون يمتزج صوتها بالهمس الرهيف الذي يملأ أذني من حين لآخر، موسيقى هادئة تنبعث من ركن قريب ورائحة زكية تفوح وتملأ أنفي وصدري بعطرها النفاذ، رفعت رأسي ببطء... رأيتها تجلس على الطاولة بثوبها الأبيض الشفاف، مكشوفة الصدر والكتفين... شعرها الناعم القصير يشبه ليل خال من النجوم، ينساب على جبينها وأسفل أذنيها، وجهها يشبه البدر في ليلة التمام، كانت تضحك ضحكات صافية وناعمة، أمامها على المائدة أطباق وشموع وكوبان بهما عصير أصفر أغلب الظن أنه عصير برتقال، اصطدمت عيناي بالجالس أمامها، كان جاري غريب الهيئة، رأيته يختلس نحوي نظرة ماكرة ثم راح يداعبها، يطعمها في فمها وتطعمه، تغمرهما سعادة كبيرة، بعد لحظات دق هاتفها معلنا عن وصول رسالة، تسابقت يداهما إلى الهاتف فسبقت يدها يده، نقلت الهاتف إلى الجهة الاخرى بعيدا عنه دون أن تفتحه وأكملت طعامها، تبدل المشهد... اختفت السعادة وحل محلها الوجوم، هدأت الضحكات وعم صمت حانق و متربص، لحظات وعلا شجار لم أتبين ما قيل فيه لكنه كان محتدما، كان وجهه غاضب وحركات فمه تدل على أنه يصرخ بكلام كثير لم أسمع منه غير كلمة واحدة.. "هديييير"... قالها صارخا ومطها كثيرا بنفس نغمة مواء القط الأسود، الآن تبينت الكلمة التي كان ينطقها، كان يهتف باسمها... نهض جاري غاضبا وأطاح باكواب العصير ثم اختفى في الداخل، جلست تبكي دافنة وجهها بين كفيها، اقتربت منها بهدوء أحاول تهدئتها، تمنيت لو أستطيع أن أمسح الدموع التي جرحت وجنتيها الوديتين، وقفت مترددا لا أستطيع فعل شيء، لكنها فجأة رفعت رأسها نحوي ونظرت إلي بعينين خاويتين، كان وجهها مشوها ومخيفا وغاضبا غضبا شديدا كأنما أنا من تسببت فيما جرى، تراجعت للوراء متفاديا أظافرها التي نشبتهم في وجهي محاولة نهشي، اصطدمت رأسي بشيء صلب فسقطت غائبا عن الوعي.
عندما استيقظت كنت راقدا في فراشي ولا شيء حولي يشير إلى ما رأيته في الليلة السابقة.....