في غرفتي المظلمة، أجلس أناجي تلك الساكنة بين جنبي، أحدثها عن أمور شتى في حياتي المتشعبة بغير وجهة أو هدف.
أسألها، ولا أنتظر منها جواب!!
فحديثي معها حديث أحادي الجانب، هو أبدا كذلك!!
أتحدث ، ولا تجيب!
سألتها اليوم عن سبب ذلك الجمود الذي لف كل كيانها فتيبست كصخر جلمود! تيبس في كل شيء، حتى المشاعر التي كانت هي الدليل الوحيد على حياتها! لم أنتظر منها الجواب ولكني استرسلت في وصفها بالتبلد و الخمول والدعة والاستسلام ثم وصفتها بالسلبية المطلقة في كل أمور الحياة.
لا أدري لماذا لا أنتظر منها أي جواب! قد .. قد يكون لأني أعرف دائما الجواب ؟!
نعم، فأنا أعرفه كما أعرفها، أعرف ذلك التجمد الذي بث في عروقها منذ زمن، فصارت كتمثال لا حياة فيه إلا في عينين ترقبان شيئا ما... شيئا مخيفا... شيئا لا يراه أحد سواها! قد يكون لسوداوية المحيط بها، أو لسوداوية ملأت كيانها.
وكلما نظرت حولي في محاولة مني لمعرفة مصدر تلك الظلمة الكامنة فيها، أرى سهام بصري تتوجه نحو شيء واحد يكمن بداخلها، بل يكمن بداخل كل نفس تحيا على وجه البسيطة، شيء لا غنى عنه أبدا حتى تستمر الحياة!!
لا ... لا .. إنه ليس الهواء أو الماء، ولا أشياء نتناولها عبر أفواهنا أو أنوفنا، وإنما هو شيء، نتناوله عبر قلوبنا!! شيء، إن لم يكن موجودا ضاع معه وجودنا!
إنه الإيمان !! نعم ... الإيمان!!
لا أقصد هنا الإيمان بالله والملائكة، او الإيمان بالسموات والأرض، فهو إيمان ثابت وعميق داخل النفس. وإنما .. أقصد إيمانا آخر ، إيمان النفس بالنفس، بالحلم ، بالأمل ، الإيمان بأن ..
مهلا!! أوليس الإيمان بالنفس هو جزء من الإيمان بالله؟!
مالي أراني أهذي وأكتب كلاما لا طائل من وراءه، كلاما يخيفني من نفسي ومن الحياة!! أهذا حق؟؟! ألهذا الحد ضعف الإيمان في قلبي فتراني تتخبط بي الحياة؟!
بدأت مأساتي عندما تلاشى في قلبي الشعور بالأمان عندما ضاع الشعور بالوطن!
أنا لا أدعي الوطنية أو الثورية بل أني لا أدعي الإيمان بالأديان !! وإن كان الدين جزء لا ينفصل عني؛ ولكنه إيمان باهت، لا لون فيه سوى لون الموت، لون قاتم، رغم بياض الأكفان! فالموت هو الإيمان الحقيقي الثابت في القلب مهما انكرته النفس بطيشها وسفاهة أعمالها.
أحمد !! أأنت هنا ؟ أعلم أنك دائما هنا، على أقل تقدير فأنت في ذلك الركن القريب البعيد في قلبي، دائما تراقبني في صمت، وسعيدة أنا بمراقبتك تلك وإن كنت أتضجر منها أحيانا! ولكني أحبها، أحب رقابتك التي كانت تشعرني بأهميتي عندك وخوفك المضطرم عليّ.
كنت أقول يا أحمد أن الوطن جزء من النفس أو أن النفس جزء من الوطن، لا أدري أيهما يكمن في الآخر ! المهم أنهما يتماهيان في بعضهما البعض فيصيران كيانا واحدا، فإذا قل إيمان أحدهما بالآخر ضاعا الاثنان معا.
الوطن يا أحمد! أتفهم ما أعني؟؟!
الوطن المهزوم دائما في كل الحروب، حتى تلك الحروب التي خاضها من أجل حرية غيره، هزم فيها لأنهم خذلوه، تخلوا عنه عندما مد لهم يده طالبا النجدة ولكنهم تركوه يغرق، ولكي ينجو.. تخلى عن كل أسلحته ورفع راية بيضاء، خرج بعدها عاريا يواري عرى نفسه بيدين هزيلتين، ورغم ذلك لم يتخل عن أولئك الذين خذلوه، وما خذلوه إلا لضعفهم وخوفهم، اما هم، فلم يجنوا شيئا سوى المزيد من الفقد والحرمان.
أتفهم يا أحمد ماذا أعني؟
سامحني، فقد اعتدت المواراة، فالشعوب المستعبدة في الأوطان المسلوبة، اعتادت على المواراة، فترانا دائما لا نعني ما نقول ولا نقول ما نعني، نتحدث بالشيفرات كما يتحدث جواسيس الأعداء!!
أنحن أعداء الوطن يا أحمد؟! وكيف يكون العداء تجاه كيان أنت فيه وهو فيك؟ إذن، فنحن أعداء أنفسنا! أرواحنا ، أحلامنا! نحن أعداء ذاك الجمال الكامن فينا، تلك الحياة! أيعقل هذا؟؟!
ثم أخبرني، أي عداء ذاك الذي نحمله له في صدورنا عندما نتحدث مثلا عن .. عن ... عن الحب !!
الحب !! أتعرفه يا أحمد؟! أنا أعلم أنك أعرف به مني!
أتذكر "نورا"؟! تلك الفتاة الشقية التي أعجبتك عندما كنا صغارا !
بالله أخبرني، ما الذي أعجبك فيها؟! وقد كنت أرها جريئة حد الوقاحة، وأنت الحيي!!
أظن أن ما أعجبك فيها هو وقاحتها !أحيانا يحتاج المرء أن يكون وقحا ولو للحظات قليلة!
أتعلم ؟ أنا أيضا، انبهرت يوما ما بإنسان وقح!! تمنيت أن أكون مثله ، وقحة ، فأنال من كل أولئك الوقحين في حياتي، والذين نالوا من براءتي!
دعك من هذا وأخبرني، كيف هي حياتك هنا؟؟ في وطنك الحقيقي! وطنك الذي لا خوف فيه ولا حزن!
عشت كما أنت، أخدع نفسي بأمور كانت تمنحني القدرة على استكمال الحياة في وطن تستحيل فيه الحياة، ولكن ... الآن لا أستطيع أن أخدع نفسي وقد تكشفت الحقائق كلها، سقطت الأقنعة المجملة عن الوجوه المقيتة، وتسلل الإيمان من القلب شيئا فشيئا مخلفا وراءه ضبابا كثيفا لا تتميز منه الأشياء
لا تتميز أبد
وأنا تائهة
ضائعة
خائفة
أريد الخلاص!!
أريد النور!!!
أريد الإيمان !!!