يمرّ الإنسان خلال حياته، طويلة كانت أو قصيرة، بمحطاتٍ كثيرة ومتعددة، تتغيّر خلالها أولوياته، وتتبدل رغباته، وتتقلب طموحاته.
في البدايات، يركض خلف الأحلام الكبيرة، يسعى للنجاح، والمكانة، والانتصارات، يظنّ أن السعادة تكمن في الوصول إلى جميع أهدافه في وقت واحد، في الإنجازات الفريدة، في الجمع بين الأحلام والأمنيات.
ولو تأملنا قليلًا كيف يبدأ الإنسان مراحل حياته، سنراه شابًا حيث يتمتع بكامل عنفوانه وصحته،
يحلم، يطلب، ويتمنى، دون أن يدرك أن ما بين يديه من صحة وعافية هو كنزه الحقيقي، بل وأغلى ما يملك.
يسعى لجمع المال، ويبني طموحات لا تنتهي، البعض يريد كل شئ في نفس الوقت دون أن يكلف نفسه عناء الجهد، يريد الصحة والشباب مع الكثير من المال، مع الوقت اللازم لإنفاقه، يريد أن يبدو بمظهر حسن ليكون وسيمًا، يريد أن ينفق بلا حساب، هو سيد قراره، لا أحد يحاسبه، فهو كبير على المحاسبة، صغير على بذل العرق.
يظل هكذا حتى تأتيه أول كبوة صحية حادة، عندها فقط يفيق، ويتمنى لو تعود له صحته كما كانت، ليكتشف متأخرًا أن الصحة كانت هي الثروة الحقيقية التي غفل عنها.
ما إن يمضي به العمر، ويتجاوز بعض الخيبات، وتقسو عليه الحياة بما يكفي، حتى يكتشف الحقيقة البسيطة، الصادمة أحيانًا: أن أقصى ما يتمناه ليس المجد، ولا المال، ولا التصفيق...
بل هدوءٌ داخلي، وسلام لا يعكره أحد.
عند محطةٍ ما في العمر، يصبح أكثر ما يطلبه الإنسان أن يستيقظ دون قلق، أن يمشي بخطى هادئة دون أن يطارده ظلّ الغضب أو الندم، أن يبتعد عن كل ضجيج يؤذي روحه، وكل علاقة تُرهقه بدل أن تمنحه السلام والطمأنينة.
يبدأ في ممارسة فنون البعد بحكمة: فيبدأ في التغافل، يتغافل عن الكلمات الجارحة، يتجاهل التصرفات الموجعة، وأحيانًا يتظاهر بعدم الفهم... فقط ليحمي قلبه من الخدوش، ويحمي روحه من الجروح.
ثم يدرك شيئًا أعمق: أن السلام لا يُهدى، بل هو قرار يُنتزع من بين أنياب الفوضى اليومية، وعشوائية الحياة.
وأن العيش بسلام لا يعني الوحدة، بل حسن اختيار من يستحق أن يبقى، وإقصاء كل ما يؤذيه، ولو بدا قريبًا.
يصل في نهاية المطاف إلى يقينٍ داخلي: أنّ البعد أحيانًا غنيمة،
وأن الصمت دواء، وأن الحياة أثمن من أن تُهدر على من لا يفهمنا.
فليكن السلام هدفًا، وليكن الهروب من الأذى شجاعة لا هروبًا، فالروح التي تنجو، هي وحدها التي تعرف طريق السلام الداخلي، الذي يصل بها إلى قلب محب، ونفس مطمئنة.