رعتها داخل قلبها، وسقتها ماء الوفاء.
حفظتها بين ضلوعها من عواصف الزمن.
وحين تفتحت الزهرة وفاح عبيرها… أهداها لغيرها.
سافر خيالها بعيدًا إلى ركن الذكريات.
ذكريات كأنها وُلدت من رحم الوجع؛ تحمل في ملامحها امتزاج الحلم بالخذلان، والعبير بالشوك. كانت تدرك أن الطريق محفوفٌ بالعواصف، ومع ذلك ظلّت تمضي بخطواتٍ من إصرارٍ لا يعرف الانكسار. ستظل وفيةً كما أخبرته في لقائهما الأول، حين همست له: بين الروح والفؤاد نبتت وردة، سأظل أرويها من دمي، وحين يفوح عبيرها لن تكون لسواك. ومنذ تلك اللحظة، صار العهدُ قدرًا، وصار الفؤادُ وطنًا لا يليق به الغياب، ولا يعرف سِوى الوفاء.
عادت إلى الوراء، أغمضت عينيها، تذكرت أول نظرة… لم تكن من عين لعين، إنما كانت تلاقي أرواح، كانت تراه حين تُغمض جفنها: فارسها الذي سيأتي على حصانه الأبيض، ليقتطفها من واحة المكان، ويزرعها بين الحنايا والوجدان.
تذكرت أول همسة، أول كلمة دغدغت حواسها الصمّاء، التي لم تتفتح لأحد قبلَه… تلك الكلمة السحرية: "أحبك". قالها وانصرف، وربما لم يُلقِ لها بالًا.
لكنها لم تنم ليلتها، أحضرت كل القواميس والمصطلحات لتصل إلى معاني الكلمة ورموزها الخفية.
أ ــ احتواء
ح ــ حنين
ب ــ بداية
ك ــ كينونة
هكذا توصلت للشفرة السرية، وحلّت الطلاسم كلها.
كم كانت سعيدة! كأنها فراشة تحمل على أجنحتها كل الألوان.
تذكرت أول لمسة… ويا لها من لمسة! لم تتلاقَ الأيادي، لكن حرارة القلوب اشتعلت. تصبب جبينها بالندى، وسرت كهرباء خفية في أوتارها وشرايينها، وارتعاشة لا تدري أهي من الجسد، أم الروح، أم الخيال.
كانت زهرة برية، أقسمت ألا يقتطفها غيره، ولا يستمتع بعبيرها وشذاها سواه.
وحين أينعت وفاح عبيرها، انتظرته ليبرّ بقسمه. لكنه حين جاء، جاء ليقتطفها وكأنه يُنهي حياتها. لم يروِها بدمه، بل سالت دماؤها. لم يظلّلها بنبضه، بل جفّف منابعها… لتذوي ويضيع عبيرها.
اقتطفها ليهديها لغيرها.
أهداها لمن لم تشهد ميلاد حبّهما، ولا ربيع قلبيهما… أو هكذا تأمّلت.
ألقاها في غياهب الزمن، قذفها إلى المجهول شاحبة باهتة… دون شذى أو عبير.
لكنها أقسمت، وستبرّ بقسمها وإن خان هو القسم.
ستزفّ أحلامها وأمنياتها قطرةً قطرة، حتى ينفد عبقها ورحيقها.
ولن تهدي عبيرها لغيره، حتى وإن ماتت دون أن يدري هو… أو يدري غيره.
فالحب عندها وفاء، ومن الوفاء ستظل زهرة نبتت في أرض بور، باقية على العهد.
ستظل وفيّة لأول كلمة… لأول همسة… لأول لمسة…
حتى يواريها النسيان.