خلف نافذة الغرفة الصغيرة وقفت شمس تتأمل السماء الشاسعة بزرقتها الرائعة،
تلاحق بعينيها ذاك النجم اللامع تتأمَّله في هدوء وتمعُّن في محاولة لاختراقه، تتساءل بينها وبين نفسها تُراه ماذا يحوي بداخله؟ هل ما زال يحتفظ بتلك الأمنيات التي ترسلها للسماء عندما تقف كل ليلة خلف نافذة غرفتها؟ أفاقت من شرودها وتأمُّلها على صوت عايدة صديقتها المقرَّبة وهي تبدو فرِحةً نوعًا ما.
عايدة: عندي لك خبر رائع جدًّا، لا شك أنه سيسعدكِ يا رفيقة العمر.
شمس بنظرة غير مبالية، لكنها لا تخلو من التساؤل: ماذا حدث؟
عايدة: أخيرًا ستتحقَّق أمنياتكِ.
استرسلت قائلة: ألم تخبريني أنكِ تودين الخروج ولو قليلًا ومغادرة هذه الغرفة والذهاب للبحر؟
انتبهت شمس بكل حواسها لتقول بصوت هادئ:
- حقًّا؟ هل سأغادر هذه الغرفة حقًّا؟ هل سأسير على الرمال؟ هل سأتمكَّن من مغادرة هذه الغرفة التي تشبه السجن الاختياري والمسير على شاطئ البحر وحدي؟
عايدة في ثقة: نعم، لقد وافق الطبيب بعد محاولات عدة، لإقناعه بأنَّ هذا سيساعد في شفائك، طبيب! لمَ لا أشعر أنه طبيب، لا أراه إلَّا سجَّان يرتدي سماعةً طبيةً ربما ليراقب ويعدُّ عليَّ حتى نبضاتي.
عايدة: لا يهم طبيب كان أو سجَّان، لكن ما يهم أنه أخيرًا قد وافق، قالت هذا لتتجه بعد ذلك صوب الباب لتغادر الغرفة وتترك شمس مع خيالها الذي أخذها وسافر بعيدًا، استدارت شمس تتأمل تلك الغرفة التي حفظت كل تفاصيلها، التي أصبحت بمثابة سجن صغير لا يحرمها فقط حريتها إنما يحبس حتى أفكارها وكل أحلامها، تلك الغرفة وهذا السرير وحامل المحاليل الطبية، حتى مع بعض اللمسات التي أُضيفت لإزالة الرهبة والجمود من الجدران لم تنجح في ذلك، توجهت صوب السرير لتجلس على طرفه، أمسكت دُميتها الصغيرة بين يديها، ابتسمت لها وكأنها تحدِّثها قائلةً في سعادة بدَت لها منقوصةً أو هكذا شعرت، هل سيتحقَّق هذا الحلم حقًّا أم سيموت كغيره من الأحلام؟ هل سنرى السماء من خارج هذه الجدران؟ هل سنسير على الرمال الناعمة بحوار ماء البحر؟ هل سنخوض بماء البحر بأقدامنا العارية نلاحق انعكاس الشمس الغاربة وولادة القمر من بين الشفق الأحمر؟ نظرت نحو الدُّمية لتقول لها بصوت منخفض، بعد أن عدَّلت من وضعها بين يديها لتبدو وكأنها تواجهها:
- لا تقلقي، سآخذكِ معي، لن أترككِ هنا في هذه الغرفة فريسةً للوحدة والقلق، أعدكِ بهذا، هل أخبركِ بشيء؟ سنأخذ معنا زجاجةً فارغةً وبعض الأوراق وقلمًا، سنكتب أسماء أولئك الذين تمنينا أن نلتقيهم يومًا ما، لكن القدر لم يشأ، سنضع الورق بالزجاجة مع دعواتنا لله أن يجمعنا يومًا ما بهم، مَن يدري ربما يحدث ذلك يومًا ما.
وضعت الدُّمية على السرير من ثَمَّ اتجهت نحو كوب نصفه ممتلئ بالماء بداخله وضعت بعض الورود المهداة لها من روح شبيهة، كل يوم تغيِّر الماء وتحدِّث الورود لتكتسب وقت أطول من الحياة أو ربما لتمدها بالحياة، استنشقت عبير الورود التي أوشكت على الذبول، ومع ذلك ما زالت تحمل العبير نفسه وكأن روح الوردة آخر ما يغادرها.
من بعيد لاح لها دفتر اليوميات، منذُ فترة لم تفتحه لتكتب جديدًا أو لتقرأ قديمًا، كتبته بمدادٍ من نزيف روحها، حدَّثت نفسها: تُرى ما سر عدم رغبتي بقراءة ما كتبت؟ هل أخشى القراءة من كثرة ما يحويه الورق من آلام وأوجاع؟ أم بسبب تلك الأحلام الكثيرة المتناثرة بين الصفحات على الورق ولم يتحقَّق منها شيء حتى أصبحت على الهامش.
حدَّثت نفسها بصوتٍ لا يسمعه سواها متى وكيف تحوَّلت الحقوق إلى أحلام يصعُب تحقيقها؟ هل كُتب عليها أن تشهد موت أمنياتها قبل تُولَد؟ لكن لا بأس، على الأقل هناك أمنية كادت تتحقق بمغادرة هذه الغرفة ولو لدقائق كما أخبرتها عايدة.
ابتسامة باهتة كسَت شفتيها وهي تردِّد في صوتٍ خفيض:
- هل تراها ستتحقق؟ مَن يدري ربما.
طرقات خفيفة على الباب تدخل على إثرها عايدة وهي تقول لشمس بصوت يحمل كل الحب والود:
- علينا أن ننام باكرًا اليوم، لنكون بكامل لياقتنا غدًا، ونستمتع بالبحر والرمل والسماء.
دون حديث توجَّهت نحو الفراش لتحتضن دُميتها بقوة وهي تهمس لها بكلمات لم يسمعها سواها.
أغمضت عينيها، حاولت جاهدةً أن تنام، لكنها فشلت في ذلك فشلًا ذريعًا، علا صوت تلك الطرقات، استيقظت عايدة لتفتح للممرضة التي قامت بما تفعله كروتين يومي.
ابتسمت عايدة قائلة: هل أنتِ جاهزة للانطلاق؟ لقد حان وقت المرح يا صديقتي.
أومأت شمس برأسها وهي تبتسم دون أي حديث.
عندما استعدتا للخروج لمحتا الطبيب وابن عمها يتناقشان في حدة، وقد بدا الأمر وكأنهما يتشاجران، عندما اقتربتا منهما علمتا من حديثهما وصوتهما المرتفع أنهما مختلفان في أيهما سيرافق شمس ويصحبها للبحر، تنافسا في ذلك كما تنافسا في كسب حبها، وكلاهما يعلم أنَّ قلبها ينبض لسواهما.
قطبت ما بين حاجبيها، خرج صوتها مبحوحًا ضعيفًا لا يكاد يغادر حنجرتها، أريد أن أكون وحدي، وحدي فقط لا أريد أي أحد معي، أريد أن أخلو بنفسي قليلًا، هل هذا كثير؟ لا أريد ما يذكِّرني بهذا المكان، وإلا فما فائدة أن ترافقني آلامي وأوجاعي؟
حاولت عايدة أن تحتوي الموقف ليمر بسلام، بينما تشبَّث كل طرف منهما بموقفه.
في صمت وبلا أي حديث استدارت شمس وفي خطوات ثقيلة ومتخاذلة توجهت إلى غرفتها، أغلقت الباب من خلفها، فتحت النافذة، حملت دُميتها، أشارت بإصبعها نحو السماء، انسابت دموعها من عينيها في صمت، لم يكن مبعث حزنها عدم مغادرة غرفتها، فهي كانت تعلم أنَّ أمنيتها لن تتحقق حتى أنها أخبرت دُميتها بذلك، كان سبب حزنها ودموعها أنها عندما نظرت نحو السماء لم ترَ كعادتها كل مرة ذلك النجم الذي تلاحقه بعينيها وترسل له أمنياتها وأحلامها مع دعوات لله أن يرفق بقلبها وروحها.
وما زال للوجع بقية..
تمَّت
ياسر محمود سلمي
د. محمد عبد الوهاب المتولي بدر
د. راقية جلال محمد الدويك
د. سمر ابراهيم ابراهيم السيد
دينا سعيد عاصم
رهام يوسف معلا
ياره السيد محمود محمد الطنطاوي
فاطمة محمد البسريني
محمد محمد جاد محسن
د. نهله عبد الحكم احمد عبد الباقي
د. عبد الوهاب المتولي بدر
زينب حمدي
حنان صلاح الدين محمد أبو العنين
د. شيماء أحمد عمارة
د. نهى فؤاد محمد رشاد
فيروز أكرم القطلبي 




































