لم يعُد الغش مجرد سلوك فردي يُمارسه بعض الطلاب في الخفاء،
بل -للأسف- قد تحوّل إلى "منظومة مجتمعية متكاملة" تشارك فيها جميع الأطراف:
بداية من بعض المدارس والإدارات، مرورًا بالمراقبين، انتهاءً بوليّ الأمر الذي يُبارك ويُسهّل ويُشارك.
ما كنا في الماضي القريب نعتبره جريمة تربوية، أصبح اليوم "أمرًا واقعًا" يُخطط له بعض الأهالي قبل الامتحانات بشهور،
يُجمّعون المال ليُشترى به "النجاح الزائف"،
تُجهّز السماعات؛ سماعات تُشترى وأخرى تُؤجَّر بمبالغ خيالية، تُجهّز الهواتف المحمولة، وتُنشأ جروبات الغش الجماعي، مقابل الآلاف من الجنيهات للطالب الواحد.
تُرتب العلاقات، وتُدفع الرشاوى... سبوبة كبرى يشارك فيها معدومو الذمم والضمائر،
كل هذا لا لشيء... إلا لأن الطالب يريد أن ينجح بمجموع كبير يؤهّله لدخول إحدى كليات القمة،
يريد النجاح دون أن يذاكر أو يبذل جهدًا للوصول لغايتِه، ولا أحد يُلزمه بذلك.
أخطر ما في الأمر أن الطالب لم يعُد يشعر بالذنب،
بل يرى الغش "حقًّا مكتسبًا"!
لمَ لا، والجميع يُمارسه على مرأى من الجميع،
ما دام الأهل يُباركونه، والمدرسة تراه وتغضّ الطرف،
بل يظن بعضهم أن من لا يغشّ "هو الغبي"،
وأن الذكاء ليس في الاجتهاد، بل في إيجاد طريقة للغش دون أن يُكتشف.
وهنا، تسقط القيم من داخل البيوت،
ويضيع التفوق الحقيقي أمام نجاحٍ مزيّف،
يُساوى فيه الطالب المجتهد بمن لم يفتح كتابًا،
ويحصد الفاشل نتيجة أفضل من المتفوق، فقط لأنه غش... بنجاح! ودون أن يُكشف أمره أحد.
لكن، هل يدوم هذا النجاح الزائف؟
هل يشعر الطالب بلذة النجاح؟
وأهله، هل يطمئنون لهذا النجاح الذي اشتروه بالمال؟
على الجميع أن يدركوا أن الطالب ربما يستطيع الغش في المراحل الدراسية المختلفة، وربما ينجح في ذلك في المرحلة الثانوية،
لكن عندما يدخل الجامعة، تبدأ الحقيقة بالظهور،
وخاصة في كليات القمة: الطب، الهندسة، الصيدلة، وغيرها...
هنا، لا مكان للغش، ولا مجال للخداع.
تُفرز المراحل من يستحق التقدم للأمام، ومن قام بالغش لشراء مستقبل لا يستحقه،
فيتأخر البعض سنوات وسنوات، يتعثرون، يفقدون الثقة،
وقد يختار بعضهم -بعد يأسهم من التقدم- تغيير كلياتهم والذهاب إلى كليات نظرية تناسب قدراتهم الحقيقية،
وذلك بعد أن يضيعوا من عمرهم عدة سنوات،
بينما يختار بعضهم أسوأ الطرق... فينهون حياتهم بالانتحار خوفًا من نظرة الشماتة من الآخرين.
يجب أن ندرك جيدًا: إن الطالب الذي تعوّد على الغش،
لن يكون باحثًا نزيهًا،
ولا طبيبًا أمينًا،
ولا مهندسًا صادقًا،
ولا محاميًا يخشى الله،
ولا مدرسًا يُربّي جيلًا...
بل سيكون نسخة مشوّهة،
إنسانًا بلا ضمير، فشل في دراسته قبل أن يفشل في مهنته،
ويتحوّل الغش من ورقة في امتحان إلى جريمة مستمرة تُدمّر المجتمع كل يوم.
نداء من القلب لكل صاحب ضمير، إلى كل وليّ أمر:
لا تُبارك الغش، لا تكن أول من يُعلّم ابنك أن السرقة -إن مارسها الجميع وتمت في صمت- فهي حلال!
الغش ليس ذكاءً، بل خيانة تربوية سيدفع ثمنها الجميع.
جميع الأديان نهت عن الغش وعدم الأمانة، والنبي ﷺ قال في الحديث الشريف:
"من غشّ فليس مني"،
وفي رواية أخرى:
"من غشنا فليس منّا."
وعلى الدولة أن تتحمل مسؤوليتها،
بتفعيل قوانين مكافحة الغش بقوة،
وإغلاق ما يُعرف باللجان الخاصة، التي يجتمع فيها أبناء "علية القوم"،
لينالوا مجانًا ما لا يحصل عليه غيرهم إلا بالكفاح والسهر والعرق.
أخيرًا وليس آخرًا،
الغش جريمة كبرى، ليس فقط لأنه يُزوّر الحقيقة،
بل لأنه يُدمّر أجيالًا كاملة...
جيلًا بعد جيل.