نظر قصي حوله متحسرًا وهو يقول: هل ترى يا صديقي كيف
أصبحت مدينتنا خاوية على عروشها!
هل ترى كيف أصبحت أسواقها فارغة وطرقها خربة وبيوتها
فارغة ومهدمة!
أين أهلها؟ بل أين زائريها ومحبيها والذين كانوا يأتون من كل أنحاء
العالم فيملأونها بهجة وضجيجًا طوال اليوم وحتى تباشير الصباح؟
لماذا غاب كل هذا ولم يتبق إلا الخراب ونعيق الغربان التي احتلت
منازلنا؟
ربت باسل عليه مهونًا وهو يقول بأسى: عندما تحل رائحة الموت
بأي مكان ترحل رائحة الخبز يا صديقي، فهم لا يجتمعان بمكان
واحد أبدًا، فالناس بطبعها تكره وتخشى رائحة الموت بقدر حبها
لرائحة الخبز وعشقها للحياة. قال ذلك ولاذ بالصمت وهو يستدير
محاولًا كبح جماح دموعه والتي تحجرت بمقلتيه حسرة وألمًا على
ما آلت إليه الأمور.
يجب أن نعود الآن، ألقى (قصي) بهذه العبارة، وهو يربت على
كتف (باسل) قائلًا: بعد قليل سيحل الظلام والمكان غير آمن،
كما إن القناصة ينتشرون مع حلول الظلام كالأشباح.
(باسل) وهو يطالع الأفق البعيد غير مكترث لما قاله (قصي)،
ليعود بذاكرته إلى الماضي القريب، فهنا وبهذا المكان بالضبط كان
يلتقي بحبيبته وقرة فؤاده (رهف)، وما إن أغمض عينيه حتى احتلت
ملامحها الملائكية قلبه وروحه وخياله، ليقول دون أن ينطق: قاتل
الله الحنين! فكم هو فتاك ومره ِ ق للقلب والروح. قال ذلك وهو
ينشد ببعض أبيات الشعر التي كتبها عقب استشهاد (رهف)، عندما
أيقن أنه بفقدها أصبح أسيرًا للحنين، يفتك به متى شاء وكلما شاء.
اشـتياق ٌ بالوتيـــــــــن ِ يسـري
غيـــاب قـــد اســـتهواه أســـري
حنين ٌ دك كل حصــــــــــوني
فكلمـــا جبرتـــه ازداد كســـري
ثم نظر نحو السماء وكأنه يستمد قوته من الله، وهو يقول: أي
رهان على النسيان هو رهان خاسر.
تذكر تلك العبارة التي قرأها ذات يوم، وشعر أنها تعبر عن حاله
بعد فقده لحبيبته (رهف)، كانت عبارة صادقة بكل ما تحمله
الكلمة من معان ٍ ، وكانت تقول: دائمًا ما تبقى الجذور حتى وإن
تساقطت الأوراق، ستبقى هناك بقايا ذكريات لا تمت فلا تراهن
على النسيان.
بادره (قصي) قائلًا: أين أنت يا صديقي! بل أين ذهبت!
تنهد (باسل) بألم وغضب متحسرًا على ما آلت إليه الأمور،
ليقول باستسلام موجهًا حديثه لرفيقه: حسنًا يا (قصي) كما تريد،
أردف قائلًا: هيا بنا الآن لنغادر.
(قصي) بودٍّ محاولًا تغيير دفة الحديث وعدم ترك صديقه
وحيدًا فريسة للألم والذكريات: ما رأيك يا (باسل) لو تأتي معي فلا
تبقى وحيدًا بمنزلك، كما أنني اشتقت لأمسياتنا السابقة، أم تراك
نسيت؟!
استطرد يقول مازحًا بلهجة محلية: خالتك (وداد) مسوية محاشي
وكبيبة تستاهل تِمك، وحالفة ما تفوتني ع الدار إلا وأنت معي، ها
شو رأيك؟
(باسل) بشرود: مرة أخرى يا صديقي، ليقول وبلهجة محلية:
بوسلي دياتها للخالة وداد، وحاكيها لا تزعل مني، وشي مرة تانية
راح كون ضيفكم إذا الله راد. من ثم ودع صديقه بابتسامة باهتة تنم
عن حزن عميق...
ما إن دلف (باسل) للمنزل حتى وقف متأملًا بعض جدرانه
المهدمة، وذلك الصمت المقيت والذي يلف المكان من كل جانب،
أخذ يتجول ببصره شاخِصًا بأركان البيت، متذكرًا كيف كان يعج
بالحركة والضجيج، حتى إنه كان لا يكاد يخلو يومًا واحدًا من
الضيوف، تنهد حسرة وهو يرى كيف أمسى معتمًا بعد أن غاب أهله
وسكنته القذائف.
ذهب إلى غرفته مباشرة، وأخرج ألبوم الصور ليستعيد ذكريات لم
تمت رغم موت أصحابها.
ما إن رأى أباه حتى حمد الله أنه ما زال بالكويت بأمان؛ حيث إنه
لم يستطع النزول منذ أن اشتد الصراع وتعذر سفر عمه إليه بديلًا له.
قلب صور الألبوم، وما إن فعل حتى رأى صورة جماعية تجمعه
مع أمه وإخوته الثلاثة، وما إن رآهم حتى سالت دموعه، وتحول
بكاؤه إلى نحيب بصوت مسموع، وهو يقول موجهًا حديثه إلى أمه
بحب واشتياق: آه ٍ يا أمي! كيف رحلتي عني وتركتني هكذا فريسة
لشوق لا يرويه إلا حضنك الدافئ.. تأمل وجهها وهو يتذكر ابتسامتها
الجميلة، ودعواتها له كلما غادر البيت ليحتضن صورتها ويقبلها
بحب، وهو يردد في صمت: كم هي قاسية هذه الذكريات! فهي
تظل عالقة بين متاهة النسيان ومطرقة الحنين، وكأنها شجرة
مثمرة تؤتي أكلها كل حين.
استطرد يقول بألم: كم وددت يا أمي أن أتزوج من سكنت فؤادي
لتحملي أطفالي! أردف يقول بوجع: كم وددت ذلك يا أمي كثيرًا !
نعم وددت لو أستطيع تحقيق أمنيتك قبل أن تنالك يد الغدر
وتنال من (رهف) ليتهم نالوا مني أولًا، فما فائدة الحياة وجدواها
دونكم! وهل يحيى الإنسان دون نبض قلبه! وما جدوى الجسد
وقد غادرته روحه! نعم يا أمي، أنت و(رهف) بمثابة النبض للقلب
والروح للجسد، وكم وددت أن تكتمل رحلة الحياة مع رفيقة دربي،
تصحبنا دعواتك وحبك لنا! تمنيت هذا كثيرًا... ولكنه القدر.
l
ما إن استعادت (شذى) وعيها حتى طالعت وَجْهَي أبويها
وملامحهما، والتي اكتست بالخوف والفزع مما جعلها ترسم ابتسامة
باهتة على شفتيها، جاهدت كثيرًا لتبدو غير مصطنعة لتبث بعض
الطمأنينة بقلوب والديها.
الأب بقلق بدا جليًّا على قسمات وجهه، وبنبرة صوته: ماذا
حدث حبيبتي؟
(شذى) بصوت خفيض: لا تقلق يا أبي! يبدو أنني قد أُصبت
بالدوار فجأة ولا داعي للخوف.
الأم بعتاب وخوف: هذا لأنك لم تتناولي أي طعام منذ الصباح،
وتذك َّ ري كم حذرتك من ذلك واستهانتك بالأمر حتى حدث ما
حدث.
(روان) وقد أحضرت كوبًا من الماء تناولته (شذى) منها
لترتشف بعض الماء، ما إن تناولته حتى شعرت بالغثيان وإرجاع
ما بجوفها بصعوبة بالغة، حتى شحب وجهها وتقطعت أنفاسها، مع
ارتجافة ألمت بكل جسدها، ليقف أبوها خلف ظهرها، حتى تستند
عليه وهو يطلب منها أن تهدأ، وتحاول التقاط أنفاسها.
كانت والدتها تشعر بالخوف والقلق، وهي تقرأ الرقية الشرعية
واضعة يدها فوق رأسها، وقد فوضت الأمر كله لله.
الأب بقلق: هل تكرر ذلك الأمر معك يا بنيتي؟
(شذى) وهي تتحاشى النظر إلى عينيه: لا تقلق يا أبي! حقًا أنا
بخير.
(روان) مقاطعة: لقد حدث ذلك من قبل مرتين يا أبي، ولكنها
توسلت إلي ّ ألا أخبركم، وجعلتني أقسم على ذلك.
ما إن أنهت (روان) عبارتها حتى لمحت (شذى) بطرف عينها
تحدجها بنظرة عتاب، وهي تحاول جاهدة بالاستناد على والدها
النهوض متوجهة مباشرة نحو غرفتها، تتبعها (روان) ليقول الأب
بخوف مشوب بالقلق: عندما تصلن مصر بالسلامة، ستذهبن إلى
الفحص مباشرة حتى نعرف ماذا يحدث، وحتى لا يتفاقم الأمر.
ما إن سمعت (شذى) حديث والدها أثناء ذهابها ِإلى غرفتها
حتى استدارت فجأة لتقول لوالديها بصوت واهن، وبتساؤل حذر:
هل ما سمعته الآن يا أبي حقيقي؟ هل سنغادر إلى مصر حقًا؟
الأب بحسم: نعم يا (شام)! نعم يا بنيتي، فالأمر هنا أوشك على الإنفجار ولا طاقة لدي للصبر والاحتمال، وأخشى أن تستخدمن ضدي
لمساومتي والضغط علي ّ من خلال خوفي عليكن ّ .
صمتت للحظات وهي تتأمل جدران المنزل التي ازدانت بشتلات
الياسمين البيضاء الممتدة من الأسفل إلى الأعلى، وهي تقول بحزن:
هل سنترك منزلنا ونغلقه يا أبي! هل سنترك الياسمين ليموت
وحيد ً ا حزينًا يا أبي!
استطردت تقول بوهن بدا على قسمات صوتها: لا يا أبي! لن
يحدث ذلك ما حييت.. ثُمّ نظرت نحو أمها وكأنها تستجديها وهي
تقول: أخبريه يا أمي أن حياتي كلها هنا، حتى ذكرياتي رغم الحزن
والألم ورغم المعاناة، فأنا أفضل العيش والبقاء هنا حيث أنتمي،
وحيث تعودت رئتاي استنشاق الياسمين، ليس بدارنا فقط، وإنما
بطرقات وأحياء حلب كلها. استطردت تقول بضعف ووهن وهي
تطالع أبويها بتوسل: إن كان قدرنا هو الموت فليكن هنا بديارنا،
وليس كلاجئين بإحدى الخيام، أو بمنفى اختياري. قالت هذا لتغادر
نحو غرفتها مهرولة، حتى كادت تتعثر من شدة الحزن والغضب.
يتبع
2/11/2025





































