كان (باسل) مستغرقًا بين أفكاره وذكرياته، عندما سمع طرقات
شديدة متواصلة وبلا انقطاع على باب بيته، طرقات خشي َ أن يأتي
بعدها اقتحام ممن لا يعرفون للمنازل أو الأرواح حرمة؛ لينهض
فزعًا في تساؤل وقلق، وهو يحدث نفسه: هل عساهم هم من يخشى
حضورهم! هل من الممكن أن يكون ما يدور بخلده صحيحا، وأنهم
علموا عن نيته فأتوا ليغتالوه؟ وإن كان الأمر هكذا، تُرَى على أي
قائمة سيكون متهمًا! قائمة النظام أم الفصائل؟! هل آن الأوان
لينال عقابه من أحد الطرفين كونه على الحياد؟ أم أنه أصبح هدفًا
لكليهما؟!
استغرق الأمر ثوان ٍ معدودة أثناء استرساله بأفكاره ومخاوفه،
كانت كافية لتتسارع الطرقات وتزداد لتصبح أكثر قوة من ذي قبل،
ليتوجه نحو الباب مباشرة، وهو يقول لله الأمر من قبل ومن بعد.
ما إن فتح الباب حتى تم دفعه بقوة وسط ذهوله، وهو يطالع تلك
الفتاة التي تلهث بشدة من أثر الخوف، وهي تعتذر عن دفعه بقوة
لا تتناسب مع جسدها، قائلة بتوسل: أرجوك أحتاج مكانًا آمنًا حتى
الصباح، فأنا مُلاحقة منذ ساعات حتى استطعت الإفلات منهم
بصعوبة بالغة.
نظر (باسل) نحوها بدهشة، لا يدري ماذا يفعل أو يقول، ولكنه
طلب منها أن تهدأ وتلتقط أنفاسها، وهو يسألها: هل أنت متأكدة
أنهم لم يقتفوا أثرك إلى هنا؟ لترد بثقة: لا تقلق فأنا أجيد التخفي
والهروب من كثرة ما أتعرض له بسبب مهنتي ومواقفي، فلا تقلق!
كانت فتاة بنهاية عقدها الثاني، ذات بشرة خمرية وملامح
جميلة، تمتاز بجسد متناسق، وكانت ترتدي قميصًا يبدو للوهلة
الأولى وكأنه رجالي، بأسفله بنطلون من الجينز، مما يوحي بالجرأة
خاصة مع شعر رأسها القصير حتى أسفل أذنيها..
لوحت بكلتا يديها أمام وجهه وهي تقول: أين ذهبت!
انتبه على حركة يديها؛ ليطلب منها أن تهدأ، وألا تصدر أي
صوت حتى ينظر بالخارج، ليطمئن أن لا أحد يتبعها أو يلاحقها.
ما إن عاد (باسل) بعد أن اطمأن لعدم وجود أحد بمحيط منزله،
حتى وجدها تتجول بعينيها بأنحاء المنزل، تلاحق نبات اللبلاب
المتسلق وبعض الصبار، وشتلات الياسمين المنتشرة بكل مكان.
كان انطباعه الأول عنها ينم عن جرأة وقوة شخصية، قلما تتوفر
بالفتيات من جيلها.
انتبه مرة أخرى على صوتها، وهي تقول له بثقة وبشكل مسرحي:
(تالة)، اسمي (تالة) أعمل مراسلة لإحدى الإذاعات، وبعض
الصحف العالمية لنقل ما يحدث هنا، بعيدًا عن الإعلام الموجه
لجميع الأطراف.
عرفها (باسل) عن نفسه، وعمله بإحدى محطات الكهرباء،
والتي غالبًا ما تكون خارج الخدمة، وعن عمله بإحدى منظمات
الإغاثة متطوعًا.
(تالة) بخجل: دعني أولًا أعتذر لاقتحامي بيتك بهذا التوقيت.
(باسل) محاولًا التخفيف عنها بود: لا داعي للاعتذار، فكما
تر َ يْن، فأنا أعيش هنا وحدي ولا شيء لدي أكثر من الصمت
والوقت كرفاق ليل أوفياء، يمتدان بلا نهاية مع ضجيج صامت
وأفكار وتساؤلات لا تنتهي، والمحصلة صفر.
(تالة): حسنًا! ربما من الجيد كسر هذا الملل بالحديث حتى
يمر الوقت، ويبزغ الفجر، ولكن ليس دون كوب من القهوة العربية
بالهيل.. أتبعت عبراتها بنظرة ذات مغزى، وهي تقول بمرح: أم أنك
لن تقدم لي ضيافة؟
(باسل) بخجل متمتمًا: وهل يعقل هذا! سأعد لنا فنجانَيْن ِ من
القهوة خلال لحظات.
(تالة): لا عليك! دلني فقط على المطبخ وسوف أعدهما أنا،
لتعرف كم أنا ماهرة بصنع القهوة اللذيذة، والتي لم تشرب مثلها،
ولن تشرب بأي مكان.
أشار (باسل) نحو المطبخ، بينما وقف متعجبًا من حالها، فمنذ
دقائق معدودة كانت تقف أمامه خائفة قلقة، وها هي الآن تمزح
وتضحك، وكأنها لم تختبر الخوف منذ قليل.
عادت (تالة) بالقهوة، والتي كان ع َ بَقها يملأ المكان لتعيد لـ
(باسل) ذكريات كانت حاضرة منذ وقت قريب.
(باسل) بتساؤل: من يراك عندما أتيتي خائفة يظن أن أشباح
الكون كله تطاردك، ومن يراك الآن فلن يرى أمامه سوى طفلة
صغيرة تراقب الغروب.. استطرد يقول بجدية: كم عمرك؟
(تالة): ومن قال إن أعمارنا تنبئ عن حالة أجسادنا...
استطردت تقول بثقة: مخطئ من يحسبها هكذا، فالعمر والزمن
مقياسان خاطئان للحياة، فليس المهم كم مضى من عمرك، ولكن
الأهم كم لحظة من السعادة تقاسمتها مع من تحب، هكذا تحتسب
الأعمار يا صديقي.
(باسل) وقد أدرك ما ترمي إليه: حسنًا أيتها الفيلسوفة، إن كان
الأمر هكذا، فجيلنا كله قد أدرك المشيب قبل الشباب.
نظر نحوها مباشرة وهو يقول: هل ستخبريني ممن تتم
ملاحقتك؟ ولماذا؟
(تالة): سبب ملاحقتي هو نقل الواقع كما هو دون رتوش،
ودون تجميل، كذلك ما أنشره على مواقع التواصل جعلني هدفًا
مشروعًا للنظام. لتستطرد قائلة: بالفعل تم اعتقالي واستجوابي
لستة أيام بإحدى مقرات المخابرات، ولولا ما تناقلته الصحف عن
اعتقالي وتدخل بعض المنظمات الحقوقية لكنت بخبر كان. قالت
هذا بطريقة ساخرة تشبه العرض المسرحي.
(باسل) بحذر: هل يعني هذا أنك منحازة إلى المعارضة؟
(تالة): بالنسبة إلى المعارضة والفصائل، فإن ظفروا بي فلن
أرى الشمس مرة أخرى. لتقول بلهجة محلية ساخرة: وعلى قولة
إخواننا المصاروة، حتى الدبان الأزرق ما راح يعرف طريقي..
(باسل) بدهشة: لماذا وأنت تنتقدين الحكومة بتعاملها العنيف
مع المدنيين؟
(تالة) بسخرية: هنا تكمن المعضلة يا صديقي، فكوني من
اللاذقية ومحسوبة على الطائفة العلوية، فأنا محط الشك والريبة،
كما أن الحقيقة ثمنها غال ٍ ، بل وفادح بمعظم الأحيان..
(باسل) بأسى: إذن فحالك هو حال الجميع هنا، وأنا واحد
منهم.
(تالة) بدهشة: لم أفهم ماذا قصدت بقولك أنك واحد منهم.
(باسل): نحن يا (تالة) الأغلبية، نحن العالقون بالمنتصف،
فلا نحن مع أولئك، ولا ننتمي إلى هؤلاء، ورغم ذلك فنحن من
تَو َ ج ّ ب عليهم دفع الثمن أضعافًا مضاعفة.
(تالة) بحسرة وألم: صدقت! هو كذلك للأسف.
(باسل) بسؤال مباغت: هل أنت خائفة؟ أقصد هل تشعرين
بالخوف؟
(تالة) وهي تتحرك في خطوات ضيقة: الخوف كلمة عميقة،
وذات مغزى، ولكن هل تعلم ما هو الخوف؟ أردفت تقول دون
انتظار لرده: الخوف نوعان يا صديقي: خوف على وخوف من،
ولكنهم لم يتركوا لنا ما نخاف عليه لنخاف منهم، لذلك فإجابتي
هي أن الخوف كلمة لم تعد بقاموسي أبدًا..
(باسل) متسائلًا: إن كان الأمر كذلك فلماذا الهروب؟
(تالة): ليس الهروب خوفًا منهم، ولكن خوفًا وحرصًا على
الحقيقة التي عاهدت الله ونفسي، وأقسمت على قبر حبيبي على
حمايتها وكشفها مهما كلفني الأمر، حتى وإن كانت حياتي هي
الثمن.
نظر (باسل) نحوها بإعجاب وهو يقول: ولكن، كيف ستخرجين
من هذا المأزق الحالي؟
(تالة) بثقة: لا تقلق، فغدًا سيأتي المفوض الأممي مع وفد
صحافي لرفع تقرير للأمم المتحدة ووضع تصور لهدنة مؤقتة
لإدخال الدواء والغذاء، ونقل الحالات الحرجة، وتبادل الأسرى،
وأنا سأنضم إليهم للخروج بشكل آمن.
(باسل): وماذا عن الأهل؟ هل هم باللاذقية؟ وما قصة قسمك
على قبر حبيبك؟
(تالة): أما عن أسرتي فقد هاجرت الأسرة كلها إلى البرازيل منذ
بداية الأحداث، رحلوا وهم يتوسلون إلي ّ لألحق بهم، فهم يدركون
أنهم سيتركون خلفهم تلك الطفلة التي لا تستطيع الحياة دونهم.
سالت الدموع فوق وجنتيها، وهي تقول: هل تعلم أنني برحيلهما
وابتعادهما عني قد كبرت أكثر مما ينبغي ونضجت قبل الأوان؟
(باسل): نعم هو كذلك، أنا أيضًا عشت ذلك ما بين غياب أبي
ورحيل أمي. ارتسمت ابتسامة باهتة على شفتيه، وهو يردد بحزن
وبغصة احتبست بحنجرته: مهما تقدم الإنسان بالعمر فقط في
حضرة والديه، يشعر أنه ما زال طفلًا، وعندما يرحلان يكبر فجأة
ألف عام.
أمّنت (تالة) على عبارته وهي تقول: كم هي صادقة عبارتك. ثم
تنهدت بأسى وهي تقول: وهكذا
لم يعد يربطني باللاذقية بعد رحيل والدي، إلا البحر وخطيبي
الذي أحببته وعشقته منذ نعومة أظافري.. قالت هذا لترتسم على
من أي شيء بالحياة، والآن ذهب كل شيء كنت أحبه، ولم يبق َ ملامحها علامات الحزن العميق، وهي تقول: كنت أحبهما أكثر
إلا الألم.
(باسل): لا أدري، ولكن يبدو أنني قد جعلتك تستعيدين
ذكريات أليمة، وأنا أعتذر جدًا عن ذلك.
(تالة): لا داعي لذلك، فهكذا هي الحياة. لتقول بأسى: هل
تصدق أن البحر الذي عشقته بلا حدود هو من أخذ حبيبي الذي
أحببته أكثر من نفسي وعشقته حد الثمالة.
(باسل) وقد أدرك ما ترمي إليه: هل هاجر عبر البحر بطريقة
غير شرعية؟
(تالة): لم يفعل هذا بإرادته، بل كان مضطرًا لذلك بعد أن
أدرك وتيقن أنه سيتم تجنيده في حرب تخالف مبادئَه وكل ما
تربى عليه.
(باسل) بحزن: يبدو أنك لم تنسيه إلى الآن.. فهل ما زلت
تحبينه؟
(تالة): بموت (علي) مات كل شيء بقلبي، ولم يعد إلا حب
الوطن ومبادئي هما من أحيا من أجلهما.. أردفت قائلة: (علي) ما
زال مستوطنًا بالقلب، محتلًا للروح، وسأظل أشتاق إليه ما دامت
بصدري أنفاس تتردد.
(باسل): لهذه الدرجة كنت تحبينه؟
(تالة) وهي تحاول جاهدة مواراة دموع أبت أن تظل حبيسة
الأحداق، فتحررت لتنساب على خديها وهي تقول بحشرجة بدت
بصوتها: ربما لو كان (علي) حيًّا ما كنت تلك الفتاة التي تراها الآن
تقف قبالتك، وربما كنت الآن ألهو وأعيش حياتي بإحدى بقاع
الأرض البعيدة، ولكن موته جعلني أعيد كل حساباتي مع الحياة
مرة أخرى..
أردفت تقول بألم وحسرة:
ليتنـــي لـــم أدنِـــه منـــي
دنـــو القلـــب مـــن الوتيـــن
أو أبحـــرت معـــه بالتمنـــي
لــــو أدركـــت أنـــه وأنـــي هشـــة يســـبقني الحنيـــن
معزوفـــة لنـــاي حــــزين
(باسل) مؤمِّنًا على قولها: نعم هو كذلك! فهم يرحلون عنا ولا
يرحلون منا، يذهبون وتبقى الذكريات شاهدة على كل المشاعر
التي عشناها معهم.
كانت (تالة) تسير بالقرب من مكتب (باسل) وهي تعطيه
ظهرها متحاشية النظر إلى عينيه حتى لا تفضحها دموعها، أو تظهر
ضعفها أمام غريب لم تلتقِه إلا من ساعات، وما إن وقع بصرها على
ألبوم الصور حتى نظرت نحوه بشكل مباغت، وهي تشير نحو إحدى
الصور قائلة: أهي والدتك؟
استطردت قائلة: حتى الآن لم تخبرني أين بقية أسرتك، ولماذا
أنت وحدك هنا!
l
من داخل منزل (شذى) وأسرتها، كان يجلس والدها بشرود
يتناول قهوته، بينما جلست والدتها بجواره، وبالقرب منهما كانت
تجلس (روان)، والصمت هو سيد الموقف، ولم يقطعه سوى رسالة
وصلت على هاتفه الخليوي ليتناوله بلهفة، وكأنه ينتظر أمرًا مهمًا،
وما إن تناول الهاتف وفتح الرسالة حتى تهللت أساريره وهو يقول
حامدًا لله: الآن فقط اطمأن قلبي. لترد الزوجة مستبشرة: عساه
يكون خيرًا إن شاء الله!
الزوج بسعادة بدت على ملامحه: نعم هو خير إن شاء الله،
فهذه الرسالة من أخي وهو يخبرني أنه أنهى كافة الأوراق الخاصة
بالطبيب المصري الذي سيباشر من خلاله توثيق أوراق العلاج
لدخولكن بفيزا علاجية، كما قام بتجهيز شقة لإقامتكن بشكل
مؤقت حتى ألحق بكن أنا و(باسل)، وما إن يلتئم شملنا حتى نغادر
إلى إحدى دول الجوار أو أوربا.
الزوجة: إن شاء الله تعالى، ولكن لماذا لا نذهب إلى الكويت
مباشرة ليجتمع شمل (باسل) بأبيه وكفاهم فرقة بعدما حدث..
لتذرف دموعها رغما عنها بعد أن استعادت ما حدث لهم، وكأنه
حدث أمس ِ .
ما إن لمح زوجها دموعها التي تحاول وأدها قبل أن تولد، حتى
قال بحب: ستكونين لـ (شام) و(روان) الأم والأب، وأثق بقدرتك
على تجاوز هذا الأمر.
بصوت قوي وبحسم قالت: اطمئن.. فالانهيار ليس خيارًا
متاحًا.. لتستطرد قائلة: كثير ً ا ما نفتقد رفاهية الاختيار ما بين
الانهيار والصمود، عندما نكون جدارًا لأحدهم بعد أن تهدمت
كل الجدر.
يتبع





































