ما كادت (تالة) تلقي بعبارتها، وقبل أن يجيبها (باسل)،
حتى دوى صوت انفجار ضخم ارتج له المنزل، واهتزت من قوتهم
الجدران؛ ليقع (باسل) أرضًا وهو يقول بصوت متقطع: (تالة)...
هل أنت ِ .. بخير.
كان الغبار والتراب يملآن المكان مع تهدم بعض الأجزاء من
البيت، وأصوات الصراخ والبكاء تصل إلى مسامعهم مع الكثير من
الهرج والمرج.
ما إن هدأت عاصفة التراب، حتى نهض (باسل)، تبعته (تالة)
ليتوجها نحو الخارج لاستطلاع ما حدث.
كان الأمر يفوق كل تصور من حيث القسوة والوجع، فبالقرب
منهم كان هناك عدة منازل قد تهدمت بالكامل فوق قاطنيها؛ لتحل
الفوضى ويسود الهرج والمرج، فالجميع يحاول إنقاذ ما يمكن
إنقاذه، رغم الظلام الحالك بعد انقطاع التيار الكهربائي، والذي لا
يتوفر إلا لساعات معدودة بعد خروج معظم المحطات من الخدمة،
إما بقصفها أو لنقص السولار والمازوت.
وفر بعض الناجين القليل من المصابيح، وعلى ضوئها رأوا
الأشلاء تنتشر بكل مكان، وصوت أوجاع وآلام المصابين تقطع
نياط القلوب.
هنا رائحة الموت مقيمة بلا زوال، بينما الأطفال يغادرون قبل
أن يدركوا طفولتهم! هنا وكلاء الموت يقومون بعملهم بمنتهى
الإخلاص وبكل ضمير! هنا حلب؛ حيث العالقون بالمنتصف.. هم
فقط من يدفعون الثمن!
حاول (باسل) مع شباب الحي تساعدهم (تالة) وكل من
لديه قوة استخراج الأطفال والنساء والعجائز من تحت الأنقاض
لإسعافهم بما توفر لديهم من إمكانيات ضعيفة، فنقص الأدوية وقلة
الإمكانيات ساهمت في ارتفاع عدد القتلى بشكل كبير.
بعد الكثير من المعاناة، أُح ْ ض ِ رَت سيارات الإسعاف لنقل
المصابين إلى أحد البيوت الكبرى، والتي غادر أهلها ليحولها
الأهالي إلى مشفى يتم إسعاف المصابين بداخله، تحت إشراف أحد
الأطباء المتطوعين، وبالصباح الباكر تم دفن الموتى ليتحولوا إلى
مجرد أرقام يتم تداولها عبر منظمات الإغاثة والمنابر الإعلامية؛
ليزداد عدد الأيتام والأرامل، وترتفع فاتورة دفع الثمن من دماء
الأبرياء والمهمشين.
عاد (باسل) ترافقه (تالة) إلى بيته، وما إن دلفا للداخل حتى
توجه (باسل) نحو ألبوم الصور، ليرفع تلك الصورة، والتي تجمع
والدته وإخوته، ليقول لها وسط دموعه: لم أنس َ سؤالك، ولكنني
لن أجيبك عليه، فأنت منذ قليل قد شاهدت بعينيك ما حدث
لهم، وبالقرب من شواهد القبور خارج أسوار المدينة تقف شواهد
قبورهم شاهدة على موت الضمائر وغياب الرحمة والإنسانية فوق
الأرض؛ لنستجديها من السماء. ثم أطرق أرضًا وهو يقول بوجع:
هناك أيضًا، وبالقرب منهم قطعة من روحي كنا قد تعاهدنا ألا
يفرقنا سوى الموت، وقد كان، فقد وفّت بوعدها معي، فلم يفرقنا
إلا الموت! أردف يقول: رحمك الله يا (رهف)! رحمك الله يا م ُ نية
القلب وثمرة الفؤاد، وكل شهداء هذه المعارك الظالمة…
(تالة): ما زلت تذكرها؟
(باسل) بصوت خفيض، وكأنه يحدث نفسه: وكيف أنساها!
أليس الحنين بذرة ً مه ّ د لها القدر، زرعها اثنان، فرحل أحدهما
وبقي الآخر ليعاني من قطاف شوكها كلما أينعت! هكذا حالي
معها، ولا أشك للحظة أنك تشعرين بما أشعر به، فهو أيضًا حالك
مع (علي)..
(تالة): هل تعلم يا (باسل).. أحيانًا أتخيل سورية وكأنها قلب
يفيض بالحب، مثل نهر تعددت منابعه، توحد الجميع لتجفيف
كل روافده...
l
بعد عدة أيام، وبأحد المعابر التي يسيطر عليها الجيش العربي
السوري، وبالتحديد معبر (كراج الحجز) وقفت السيدة (نسرين)
بصحبة ابنتيها (شذى) و(روان) لإنهاء إجراءات الخروج من
المعبر، الذي يصل حلب الشرقية بحلب الغربية، ومنها إلى مطار
دمشق الدولي للسفر إلى القاهرة..
وما إن أَنْهَوا الإجراءات، حتى نظرت (شذى) إلى الخلف وسط
دموعها، لِمَ لا وكل الأبجدية ما كانت لتعبر عن مشاعرها، فمهما
تحدثت أو صرخت ما كانت لتهدأ ثورة روحها، فما تشعر به عصي عن
الشرح، عصي عن الإدراك، هي فقط ومثلها من يشعر بهذا الشعور؛
حيث تنمو بين القلب والوتين صرخة وجع تولد بين الحنايا، فترتدي
وشاح الصمت ليراودها مخاض الحنين، فتجهضها قسوة الواقع،
فتموت قبل الولادة.. كان هذا حالها وهي تودع حياتها وذكرياتها،
لتقول بصوت لم يغادر حنجرتها أبدًا: ليت الأمر كان بيدي، فما
كنت لأغادر إلا حين تغادر الروح الجسد.. توجهت نحو السماء
في توسل وهي تقول: اللهم احفظ الشام وأهله، فإني أستودعهم لديك، ولا تحرمني العودة والموت هنا حيث يزهر الياسمين..
نظرت نظرة أخيرة، وهي تقول: عذرًا! فما كان هذا خيارًا أو قرارًا.
ولكنه القدر…
يتبع





































