وقعت كلمات (شذى) على (مازن) كالصاعقة، وهي تخبره بقرارها بالانفصال، ورغبتها بعدم استكمال الخطبة والزواج.
(مازن) بتساؤل حذر، وهو يشعر بغصة تجتاح قلبه وروحه: لماذا
يا (شذى)؟ ولماذا الآن؟ هل لهذا علاقة بكون (باسل) ربما يكون
على قيد الحياة؟ هل تنتظرين عودة (باسل)؟ نظرت (شذى) نحوه نظرة عتاب ولوم، وهي تجيبه قائلة: هل
هذا هو ما تبادر إلى ذهنك يا (مازن)؟ هل تظن بي ذلك حقًا! (مازن) بصوت خفيض وبأسى: لماذا إذًا يا (شذى)؟ أخبريني، فعقلي توقف عن التفكير، وما عدت أستطيع التفكير بما هو خطأ
أو الصواب.
هل صدر مني ما يسيء إليك؟ ألا تجدين نفسك معي؟ أخبريني إن كان كذلك، فلن أغضب ولن ألومك.. تعلمين أنني
أبدًا لم أفرض نفسي عليك، وبأنني لن أفرض نفسي، كما أنك تعلمين أن ما يحركني اتجاهك هو الحب ولا شيء غيره.
(شذى): نعم أعلم يا (مازن)، كما أعلم صدق مشاعرك نحوي، وأنها ليست مشاعر شفقة أو ما شابه، ولكن صدقني، قراري هذا
لصالحك أولًا، ولن يتغير.. قالت عبارتها تلك وغادرت إلى غرفتها متحاشية النظر إلى عينيه، أو انتظار رده على عبارتها الأخيرة..
حاولت جاهدة ألا يشعر بتلك الغصة التي تجتاح روحها، وألا يرى تلك العبرات المختنقة بقلبها لتفيض دموعها منهمرة كالشلال، بعد أن تحررت من أسرها لتنساب فوق وجنتيها في خطوط متعرجة.
وقف (مازن) بمكانه عاجزًا عن الحراك لا يدري هل يغادر
والأمر معلق هكذا بقرارها المفاجئ، ليتساءل بينه وبين نفسه هل حقًا قد انتهى كل شيء؟!
انتابته الكثير من الشكوك حول ما حدث، وردة فعلها غير المتوقعة ليتساءل بحيرة ممزوجة بالألم تُرى ما هو ذلك الشيء الذي دفعها لذلك؟ هل بسبب (باسل) أم ربما... توقف لبرهة قبل أن
يردد بهمس: هل يمكن أن يكون بسبب عودة (سمر) بعد طلاقها
من (عادل)؟
لم يشعر إلا بأيد ٍ تمتد لتربت على كتفه من الخلف، لتعيده من
شروده وتساؤلاته الحائرة والعاجزة بنفس الوقت.
نظر خلفه ليجد والدة (شذى) تربت عليه بحنو ورفق، وهي تدعوه إلى غرفة الضيوف همسًا، حتى لا يصل صوتها إلى حيث
تتواجد (شذى) بغرفتها، وما إن وصلا إلى غرفة الضيوف حتى
طلبت منه بابتسامة يشوبها الحزن أن يجلس ويستمع لما ستخبره به، وما إن جلس (مازن) حتى بادرها بالسؤال قائلًا: هل تعلمين شيئًا؟ هل أخبرتك بأي شيء مما أخبرتني به للتو؟
والدة (شذى) وهي تكافح لوأد تلك الدموع التي تأبى أن تظل قابعة بمقلتيها: أخبرتك من قبل يا بني أن كل أم تعرف جيدًا كيف يفكر أبناؤها، أما أنا فـ (شذى) ليست ابنتي، إنما هي أختي وصديقتي
وتوءم روحي، وابنة قلبي، وهي بالنسبة إلي ّ كتاب مفتوح، فأنا أعلم كيف تفكر وفيم َ تفكر قبل حتى أن تتحدث أو تخبرني به.
(مازن): إذًا! هل تمتلكين تفسيرًا مقنعًا لما حدث الآن، فحتى
أمس كنت و(شذى) نفكر ببيتنا وبأسماء أطفالنا، وكنا نتشاجر كالأطفال بسبب رغبتي ببنت تحمل ملامحها، ورغبتها بطفل
يشبهني، فكيف تبدل كل هذا بين ليلة وضحاها لتأخذ قرارًا كهذا
يؤذيني كما يؤذيها!
والدة (شذى): سأخبرك يا بني، سأخبرك... ليس لأنك خطيب
ابنتي وزوجها المنتظر، ولكن لأنك ابن لي بكل ما تحمله الكلمة
من معان ٍ ، سأخبرك حتى لا تظلمها أو تسيء بها الظن، فـ (شذى) ابنتي ليست كسائر الفتيات، ربما لأنها تهتم بالتفاصيل البسيطة والصغيرة، والتي ربما لا يلقي لها الكثيرون أي بال، أو حتى
يلاحظونها، فهي لا تنظر أسفل أقدامها، إنما تذهب ببصرها مد خيالها لترى نفسها كيف ستكون ومع من ستكون.
استطردت تقول بحب وفخر: (شذى) ابنتي تحب الخير والسعادة للجميع، فما بالك بمن تحبه، ألا تتمنى له السعادة!
(مازن): وكيف يعقل هذا وسعادتي معها وببن يديها! وهي فقط من أريدها ومن اختارها قلبي، ومالت لها روحي، ومن
المستحيل أن أتزوج غيرها أو أختار سواها؛ لتكون رفيقة دربي، فالآن وغدًا ومستقبلًا، وكلما أغمضت عيناي لا أجدني إلا معها هي وحدها، دون غيرها أو سواها، فكيف ظنت أو تظنين أنها هكذا
تفكر بسعادتي؟!
والدة (شذى): أنت يا بني وكأي رجل تحتاج زوجة تسعدك، تحتاج امرأة تخرج معك وتمرح معك تشاركك كل لحظات مرحك وسعادتك، ويكون لك منها الذرية الصالحة التي تكون امتدادًا لك ولأسرتك. توقفت لبرهة، قبل أن تتنهد بأسى وهي تقول بنبرة لا تخلو من الحزن: و(شذى) يا بني تفكر أنها لن تستطيع أن توفر لك كل ذلك، ولن تكون الزوجة التي تسعدك، أو الأم المناسبة لأطفالك.
(مازن): وإن أخبرتك أنني أريدها هي وبها أكتفي عن كل شيء، فهل لديها أو لديك شك بذلك؟ نعم سأكتفي بها وحدها عن كل
شيء، ستصبح هي زوجتي وأختي وابنتي ّ ، ولا أريد أن يملأ مكانها أو
يعوضني عنها أي شيء. فقط أخبريها أنه لا حياة لي بدونها، وأنها
دعوتي لله عند سجودي..
والدة (شذى) وقد فاضت عيناها بالدموع، وهي تقول: ربما يا
بني عندما رأت (سمر) بكامل زينتها وأنوثتها، وهي تعلم أن (سمر) تحبك وقلبها معلق بك خاصة بعد أن... لم تكمل عبارتها ولكنها
صمتت وذهبت بنوبة من البكاء، وهي تحاول أن تكمل عبارتها
بصعوبة بالغة، قبل أن تتوقف لالتقاط بعض الأنفاس.
(مازن): أرجوك ِ أخبريني ماذا أردت ِ أن تقولي! خاصة بعد ماذا، هل هناك شيء لا أعرفه؟ هل هناك ما تخفينه عني؟ تساءل
بغضب: هل تحدثت (سمر) مع (شذى)؟ هل أخبرتها بأي أمور خاطئة؟ هل من الممكن أنها عادت لتخرب حياتي وتفرق بيننا؟
قال هذا بضيق وغضب، وهو ينهض محاولًا الصعود إلى الأعلى؛
حيث (سمر) ووالدته قبل أن توقفه والدة (شذى)، متشبثة بذراعه وهي تقول من وراء دموعها: مهلًا يا بني، لا تسئ الظن بـ (سمر)،
فهي لم تفعل أي شيء مما ظننته، ولم يصدر عنها ما يسيء لك أبدًا.
لتقول وسط أنفاسها المتلاحقة: تمهل يا بني وسأخبرك بكل شيء. هدأت ثورة (مازن) بعد أن برأت والدة (شذى) (سمر) من
ظنونه نحوها.
استجمعت والدة (شذى) كل قواها، وهي تتنهد وتأخذ نفسًا عميقًا، قبل أن تقول بألم: تعلم يا بني وربما أكثر مني تأثير التداوي
بالكيماوي وآثاره الجسدية والنفسية.
(مازن): نعم أعلم، ولهذا أنا حريص على التواجد معها وبقربها دومًا، حتى نتجاوز ذلك سويًّا. أردف قائلًا بصدق: وما حرصي
ورغبتي بإتمام الزواج بسرعة إلا لنقوم بإجراء عملية الخلايا الجذعية بأقصى سرعة، فهي الأمل حتى تتعافى سريعًا وبدون ألم
لتعود لحياتها.
والدة (شذى) بصوت مرتعش وخفيض: لقد دخلت (روان)
اليوم إلى غرفة (شذى) بعد عودتهما من دار الأيتام، وكانت (شذى) تبدل ملابسها، وما كادت أن تدخل حتى خرجت من
الغرفة والدموع تملأ وجهها، بسبب ما رأته من تساقط شعر أختها،
وفقدها لمساحات كبيرة من الشعر، ما ساهم بتغيير ملامحها.
روت له كيف خرجت عليهما (شذى) لتخفف عنهما وتطمئنهما
وتخبرهما بأنها راضية بقضاء الله، ثم بكائهن ّ جميعًا بصمت وبدون
أي حديث، كما أخبرته أن (شذى) وقبل حضورهم لدعوة العشاء
قامت بقص ما تبقى من شعرها بالكامل حتى لا يصبح مشوههًا.
(مازن) بابتسامة تحمل الكثير من الوجع والخيبة: وهل ظننتم
حقًا أن هذا قد يصنع الفارق في حبي لها؟ هل اتخذت قرارها
منفردة من أجل ذلك؟ والدة (شذى) بصوت حزين: ربما لا تعلم يا بني ماذا يعني الشعر بالنسبة إلى الفتاة! استطردت قائلة: إنه وبلا مبالغة تاج
أنوثتها، ومبعث فخرها.. ثم عادت بذاكرتها إلى الوراء وهي تقول
لـ (شذى) عمة أخت والدها، تركها زوجها بعد أن أصابها السرطان، وتساقط شعرها، تركها وكأنه لم يكن بينهما ود ورحمة، وكم كان
هذا قاسيًّا عليها! فقد أشعرها بأنها لا تعني له شيئًان ولولا وقوف
الجميع معها ودعمها لاستسلمت لهذا المرض، ولكنها ولله الحمد تعافت وقد عوضها الله كل خير.
(مازن) معاتبًا: وهل هذا ظن (شذى) بي؟ ليقول بحسم: لن أعاتبها اليوم، ولكن سأترك الأيام والمواقف لتخبرها عني، وكل ما أريده الآن أن تعلم أنني أحببت روحها، وأنا على يقين أن ذلك
الكيماوي –حتى وإن أنهك جسدها، أو تسبب بسقوط شعرها– إلا
أنه لم يمس روحها بأي سوء.. قال ذلك وهو ينهض بعد أن قال إنه الآن أصبح يعلم كل شيء وسيرد عليها بأقرب وقت...
نهض (مازن) متوجهًا إلى الخارج، وهو يشكرها لأنها أخرجته من دوامة الأفكار السلبية ودائرة الظنون والشكوك التي لا تنتهي، ومن ثم غادر وهو يستأذنها للحضور عصر الغد، لتجيبه والدة
(شذى) بود: كما تحب يا بني، فأنت –ومهما حدث– ستظل ابنًا لي، حتى وإن لم يكن... لم يدعها (مازن) تكمل عبارتها وهو
يقول: فضلًا لا تنطقيها –لا قدر الله–.
يتبع






































