هل تنكر أنك –ومنذ حضور تلك الفتاة، وإقامتها مع والدتها
وشقيقتها بتلك الشقة، بالطابق الأرضي ببنايتكم– قد تغيرت كليًّا؟
كانت هذه كلمات (سمر)، وقد ألقتها بوجه (مازن) ابن خالتها
وخطيبها، وهي بثورة من الغضب الجم، جعلت وجنتيها تصبحان
أكثر احمرارًا، بينما عيناها مغرورقتان بالدموع التي تنساب منهما
بلا توقف.
شرد (مازن) بخياله، متذكرًا تلك المرأة القادمة من سورية بعد
اشتعال الصراع هناك، والتي كانت ابنة لجيرانهم قبل أن تتزوج
وتنتقل لتقيم مع زوجها بسورية، وَمِن ْ ثم تعود بعد بدء الصراع المسلح
وانتشار الفوضى لبيت أهلها، وعندما عادت لم تكن بمفردها، إنما
كانت بصحبتها أسرة سورية مكونة من أم وابنتيها، يبحثن عن مكان
لاستئجاره والإقامة فيه، بعد أن رفضت الأم الإقامة بإحدى المدن
الجديدة، حسب الترتيب المسبق قبل قدومهن؛ لرغبتها بأن تكون
بمكان آمن، ولا تخشى فيه على ابنتيها.
كانت هذه أول مرة يرى فيها (شذى)، وقد عرف اسمها من والدتها، فيما بعد لا يدري وقتها لماذا أسرَتْه بذلك اليوم، رغم أنها
لم تتفوه ببنت شفة، حتى إنها لم ترفع عينيها عن الأرض، وقتها فقط
شعر أنه يمتلك قلبًا وأن لهذا القلب نبضًا.
تذكر كيف تسارعت دقات قلبه معلنة الوقوع بالأسر دون أي مقاومة، كان (مازن) مثل عامة الشعب المصري، ملمًا بما يحدث
بسورية، وكان متعاطفًا لأقصى درجة مع الشعب السوري بجميع
أطيافه، خاصة بعد أن أصبح الصراع دمويًّا إلى أبعد مدى، وكم
ود لو يستطيع تقديم المساعدة ومد يد العون لهم! وربما ظن أنها
الفرصة المناسبة لذلك من خلال استضافة الأسرة السورية، ولكنه –
ولدهشته– وجد رفضًا تامًّا وقاطعًا من السيدة السورية، والتي أصرت
أن تستأجر المكان وتدفع المقابل كاملًا، وهي تقول له ووالدته
بحب وبود: نحمد الله يا بني! فالأمور متيسرة ونحن نبحث فقط
عن الصحبة الآمنة.
عاد من شروده على صوت (سمر) وهي تقول بحدة: بالطبع لا تجد ما تدافع به عن نفسك، أليس كذلك! هل يمكنك أن تنكر ما أقوله؟ هيا واجهني، وضع عينك بعيني، وقل إنني أتوهم ذلك.
(مازن) وهو ينظر بعينيها مباشرة، ليقول بتوسل وفي نبرة هادئة:
أرجوك ِ يا (سمر)، بل أتوسل إليك ِ ، لا تلقي بالتهم جزافًا ولا تظلميني هكذا.. استطرد يقول بلا توقف: أنت ِ تعلمين جيدًا أنك بالنسبة إلي ّ ابنة خالتي، كما أنك صديقتي المقربة، وكاتمة أسراري، وبمثابة أختي، وقد تربينا ونشأنا معًا مثل الإخوة وأكثر، فلماذا تصعبين الأمر علينا ليصبح أكثر تعقيدًا؟
(سمر) بضيق وغضب: إن كان الأمر كذلك، وإن كنت أختك كما تقول، فلماذا وافقت من الأساس على الارتباط بي؟ لماذا
قمت بخطبتي؟ هل فعلت ذلك لتجرحني وتهينني كما تفعل الآن؟
(مازن) وهو يتنهد، ويأخذ نفسًا عميقًا قبل أن يقول بصوت خفيض وهو يتحاشى النظر إلى عينيها المغرورقتين بالدموع: تعلمين
جيدًا يا (سمر) أنها رغبة أمي وأمنيتها أن نتزوج، كما تعلمين أنها وخالتي مارستا علي ّضغوطا لا تحتمل، وقد حاولت إخبارهما أكثر من مرة أنك مثل أختي ولكن أمي وبكل مرة كانت تغضب
مني وتهمل صحتها، وأنت تعلمين بأن حالة قلبها لا تحتمل أي حزن قد يؤثر عليها، خاصة مع إصابتها بمرض السكري وضغط الدم المرتفع.
(سمر) وقد أخذت نفسًا عميقًا مصحوبًا بتنهيدة طويلة، ثم قامت
بمسح دموعها، وهي تقول باستسلام: حسنًا يا (مازن)! هل يمكنك
إخباري بما هو مطلوب مني الآن؟
أردفت تقول بطريقة مسرحية: هل تريدني أن أذهب إليهما
وأخبرهما بأنني لا أريدك وأنني لا أحبك، وأريد فسخ الخطبة؟!
انسابت دموعها مرة أخرى، وهي تقول بعجز وألم بديا واضحين
بنبرة صوتها: تعلم أنهما لن يصدقوني وسيكتشفون كذبي قبل حتى أن أتحدث بأول حرف.
لتنهمر دموعها بغزارة وتنساب على وجنتيها، وهي تقول بحزن:
الجميع يعلم أنني أحبك، وأنني منذ كنت طفلة أحلم بأن تكون لي دون غيري، يعلمون أنك حب عمري وأول وأكبر أحلامي..
(مازن) وهو يقول لها بتوسل: أنت ِ تستحقين من هو أفضل مني يا
(سمر)، فلا تصعبين الأمر علي ّ وعلى نفسك، وإن كنت ِ تعرفيني حق
المعرفة، فأنت ِ تعلمين أنني لست بذلك الشخص الذي قد يخدعك
ويتلاعب بمشاعرك أو يستمر بكذبة مصطنعة لإرضاء من حوله.
(سمر) وهي تبتلع غصة قد علقت بصوتها: هل تعلم يا (مازن)!
أنا أعرف أن المشكلة لا تكمن بك، وأعلم أنها مشكلتي أنا، فأنا من
تفتحت عيناها عليك، ومن وقتها عجزت أن ترى غيرك، فأنت
وحدك من أتخيل حياتي معه، ولا أتخيل نفسي مع سواك، فهل هذه جريمتي! هل هذا ذنب لا يغتفر!
(مازن): ذنبك الوحيد يا (سمر) أنك لم تعطي لنفسك أو لأي
أحد الفرصة للتقرب منك، ولا شك لدي ّ أنك ذات يوم ستجدين
من تكتملين به ويكتمل بك..
(سمر): ألهذه الدرجة تحبها حقًا؟ هل تملكت منك حتى أنك
ستتركني من أجلها؟ أجبني يا (مازن) متى؟ وكيف حدث ذلك
بهذه المدة القصيرة؟
صمت (مازن) وقد نظر إلى الأسفل متحاشيًا النظر إلى عينيها، وهو يقول بصوت خفيض: منذ أول لقاء، ودون أي حديث، ولكن
صدقيني، فالأمر ليس بيدي، وحتى إن لم يكن مقدرًا لي الارتباط بها، فلن أظلمك بالارتباط بك، وإلا تحول حبك لي إلى كراهية، وهذا ما لم أسمح بحدوثه..
(سمر) وهي تغالب دموعها: أدركت هذا منذ البداية، ومنذ
انتقلت تلك السورية مع أهلها وأقاموا معكم بنفس البيت..
استطردت تقول بلا توقف: نعم فمنذ ذلك الحين لم تعد كما كنت، حتى أنك أصبحت تعتبر شغفي بك وغيرتي عليك أمرًا غير
مألوف ومستفزًا.. أليس كذلك يا (مازن)!
(مازن): وهل تظنين هذا حقًا؟ هل بعد كل هذه السنوات
لم تعرفي من أنا وكيف أفكر! ألم أخبرك أكثر من مرة أنني أكره القيود.. كل القيود بجميع أنواعها، وأنني أعشق الحرية ما دمت لا أؤذي أحدًا بهذه الحرية.
ألم تدركي يا (سمر) أنني عصفور غير قابل للأسر تحت أي
مسمى، وأنني لن أساوم على حريتي معك أو مع غيرك، ولن أفعل!
ألم تدركي أن عشقي للحرية كخيال جامح لا يحده زمان أو مكان..
تأملها بهدوء وهو يقول: صدقيني يا (سمر)، لو كنت أحببتني حقًا
لشعرت ِ بكل ذلك دون حتى أن أقوله أو أفصح عنه.
(سمر) بابتسامة ساخرة: ولو أحببتني أنت نصف ما أحببتك لما
رأيتها قيودًا أو قفصًا مُعدًا لأسرك، ولكنه تباين المشاعر بيننا، فما أراه أنا حبًّا واحتواء ً تستشعره أنت قيدًا لأسرك.
تنهدت وهي تقول بأسى وألم قد بدا جليًّا بنبرة صوتها: ذات يوم، وعندما تكون مع من ستتركني من أجلها يا (مازن)، تذكر
هذه الكلمات جيدًا ولا تنساها أبدًا.. استطردت تقول وهي تنظر
نحو عينيه مباشرة: كنت أعد الثواني حتى نكون معًا، كنت أتمنى
أن أسعدك حقًا، ولكن ما دمت ترى سعادتك مع غيري، فسأبتعد وأدعو الله ألا يكون في ذلك شقاء لك كشقائي ببعدي عنك.
(مازن): أرجوك ِ يا (سمر)، تعلمين أنه أمر خارج عن إرادتنا جميعًا، فلا أحد منا يمتلك السيطرة على مشاعره أو الحكم على قلبه،
سامحيني يا (سمر) إن كنت خذلتك رغمًا عني، ولكن أن يحدث ذلك الآن فهو أفضل كثيرًا من أن يحدث مستقبلًا، ويؤذي كلانا
فيتحول هذا الحب بقلبك لي إلى كره وهذا ما لا أريده لي أو لك.
يتبع





































