باليوم التالي ذهب الجميع للاطمئنان على (باسل)؛ حيث كان
يقيم بنزل قريب منهم لاصطحابه معهم لمشيخة الأزهر؛ حيث إنه
طرف أصيل بهذا الوضع المعقد.
ما إن وصلا إلى غرفة (باسل) حتى وجدوه مستلقيًا على فراشه،
ينظر إلى سقف الغرفة أو ربما إلى الفراغ، وكأنه قد أدرك بعد كل
ما اختبره أنه لا شيء يهم في هذه الحياة، حتى تداهمنا بقسوتها دون
رحمة أو هوادة.
مدّت (شذى) يدها لتسلم عليه بود، لينظر نحوها ويبادلها
بابتسامة خفيفة دون أن يحرك يده.
ليبادر والدها بتوضيح الأمر قائلًا بأسى: لقد نسيت إخباركم أن
(باسل) يعاني من خلل أصاب أوتار يده اليمنى من أثر التعذيب.
أردف قائلًا: برغم أسره وإصابته القاتلة، إلا أن ذلك لم يردعهم عن
تعذيبه، ظنًّا منهم أنه عميل للنظام أو لأحد الفصائل الأخرى.
حاولت (شذى) الحديث معه للتخفيف عليه، ولكنه لم يتحدث
أو يجب بأي شيء، فقط كان يبتسم، وبعض دموعه تنسل من
عينيه لتتساقط على وجنتيه في صمت. لم يخفِ ذلك الأسى وتلك
التساؤلات التي كانت واضحة جلية بعينيه لمن يجيد القراءة.
جلس والد (شذى) على طرف الفراش ليتحدث إليه، وهو يقول
بجدية: أعلم يا بني أنك تسمعني بوضوح، وأنك ستتفهم كلامي
جيدًا، والآن أريدك أن تنتبه إلى كل كلمة سأخبرك بها، حتى
تدرك أهمية هذا الوضع الصعب الذي نعاني منه كلنا.
أومأ (باسل) برأسه وهو ينظر باتجاه (مازن)، وكأنه يتساءل من
هو، فحتى الآن لم يقدم نفسه أو يقدمه أحد إليه.
هنا أدرك والد (شذى) الأمر، فقال على الفور: إنه (مازن) يا
(باسل). ثم صمت قليلًا قبل أن يقول بحذر، وهو يضغط على
مخارج الحروف: (مازن) هو زوج (شذى).. ليسترسل قائلًا، وكأنه
يوضح الأمر: لم يحدث ذلك، ولم يتم الزواج إلا بعد أن قرؤوا
خبرًا عن موتك على صفحات إحدى الصحف التابعة لمنظمة
الإغاثة الأممية، وبعد انتهاء العدة الشرعية، كما أنه حدث للضرورة
القصوى، وحتى تسافر (شام) للعلاج بالخارج.
وما إن أنهى عبارته حتى وضح الحزن على قسمات وجهه، وسالت
دموعه وهو يقلب بصره بين (شام) وعمه في قلق، ليربت عمه
على يده وهو يقول: لا تقلق يا (باسل)! ستكون (شام) بخير إن
شاء الله، ونحن هنا الآن حتى يحدث ذلك.
أومأ (باسل) برأسه علامة على تفهمه للأمر، وقد أدرك ما يرمي
إليه عمه، وهو يحاول أن يتحدث بصعوبة، ليقول عمه: وفر جهدك يا
بني، وسنذهب جميعًا إلى مشيخة الأزهر، وهناك سيتضح كل شيء.
هنا تحدثت والدة (شذى) وكأنها ترجوه، وهي تقول: الآن يا
(باسل).. (شذى)، بل نحن جميعًا بمأزق كبير، فهي زوجة لك
على الورق، وبموتك على الورق أيضًا تزوجت من (مازن)، ولكن
وبعد عودتك –والتي أسعدتنا جميعًا– فهناك مخالفة شرعية، ونريد
الذهاب إلى مشيخة الأزهر لاستجلاء الحكم الشرعي، ومدى صحة
زواج (مازن) و(شذى) ليستطيعا السفر بأقصى سرعة.
أومأ (باسل) برأسه متفهمًا دون أن يجيب عليها، فقط حاول
النهوض من على فراشه وكأنه يبحث عن شيء للكتابة عليه، ليوضح
موقفه من هذا الأمر؛ ليكرر عليه نفس قوله السابق بضرورة الذهاب
إلى مشيخة الأزهر بجميع الأحوال، ثم يطلب من الجميع النزول
إلى الأسفل وانتظاره ببهو الفندق، حتى يساعد (باسل) على ارتداء
ملابسه سريعًا واللحاق بهم، ليطلب منه (مازن) بود الانتظار معه
ومساعدته بهذا الأمر.
نظر والد (شذى) إلى (باسل)، والذي لم يبدِ أي اعتراض على
تواجد (مازن).
دقائق قليلة وكان الجميع بالسيارة في طريقهم إلى مشيخة الأزهر،
للحصول على الفتوى الشرعية، وما إن وصلوا حتى توجهوا مباشرة
إلى مقر الفتوى، ليلتقوا هناك بأحد الشيوخ الأجلاء، وقد كان
بشوش الوجه، استقبلهم بترحاب شديد.
وبعد أن جلس الجميع، طُلب منهم أن يطرحوا مسألتهم عليه
بإيجاز ودقة، مع عدم إغفال أي أمر قد يؤثر على الفتوى، وهنا
تحدث والد (شذى) بإسهاب، وهو يروي للشيخ الأمر منذ بدايته
حتى حضورهم إليه.
وبعد أن استمع الشيخ إلى القصة كاملة وبكل تفاصيلها، قال
بجدية بعد البسملة، وبعد أن صلى وسلم على رسول الله وعلى آل
بيته الأطهار، وترضّى عن صحابته الكرام: إن الإجماع الفقهي
بين الأئمة والسلف الصالح قد اجتمع على عودة الزوجة لزوجها
الأول، ما دام تأكد وجوده على قيد الحياة، وما دام غيابه لأمر
خارج عن إرادته، وفي حالة (باسل) فهو ينطبق عليه هذا الأمر
كونه كان محتجزًا قسرًا وعلى غير رغبته، لذلك فإن الزواج الثاني
يُعد لاغيًا وكأنه لم يكن.
هنا تبادل الجميع النظرات، وقد صدمتهم عبارة الشيخ وحسمه
للأمر منذ الوهلة الأولى.
شحب وجه (شذى) حتى حاكى وجوه الموتى، لتشعر أن الأرض
تكاد تميد بها، بينما ابتلعت والدتها ريقها بصعوبة بالغة لا تدري
بماذا ترد أو تقول، أما الأب فقد شعر لأول مرة بالعجز بعد أن
أدرك أنه هو من أوصل الأمر إلى هنا، بسبب إصراره على زواج
(شام) من (باسل) قبل نزوحهم إلى مصر.
كان الأمر أشد قسوة على (مازن)، ليردد في ذهول ودهشة: ولكن
كيف هذا يا فضيلة الشيخ، وأنا قد تزوجتها بعقد شرعي؟ كما أنها
وقت الزواج كانت خالية من الموانع الشرعية؛ حيث إنه تم إعلان
الوفاة. قال ذلك وهو يريه الخبر بالصحيفة، ليتابع بقوله: كما أننا
انتظرنا انقضاء العدة الشرعية، فكيف يكون زواجنا لاغيًا وكأنه لم
يكن؟!
قال الشيخ: اهدأ يا بني! فأنا أعلم ما تقوله جيدًا، ولكن إذا فكرت وتدبرت الأمر جيدًا، فسترى أن الزوج الأول أيضًا قد
تزوجها بعقد شرعي وموثق ومكتمل الأركان. ليستطرد قائلًا بحذر:
إلا إذا…
وما إن نطق بهذه العبارة حتى تعلقت به أنظار الجميع، ليقولوا وبنفس واحد وقد لاحت لهم نافذة للأمل: إلا إذا ماذا يا فضيلة
الإمام؟ قال الشيخ بهدوء ووقار: إلا إذا تنازل الزوج الأول عن حقه الأصيل بذلك، فيطلق الزوجة، وهنا يصبح العقد الثاني صحيحًا.
توجهت الأنظار كلها صوب (باسل)، والذي صدرت منه بعض الهمهمات غير المفهومة، وهو يجول ببصره فوق مكتب الشيخ.
لم يفهم الجميع ماذا يقول أو ماذا يريد، فأشار لهم بيده الثانية
بأنه يريد ورقة وقلمًا ليكتب ما يريد قوله لهم، ليناوله الشيخ
دفترًا وقلمًا.
وما إن أمسك بالقلم حتى كتب مباشرة: لقد طلقت (شذى)
غيابيًّا منذ وقوعي بالأسر، خوفًا من أن يطول أسري، وتحسبًا
لموتي هناك، وقد كان ذلك أمام بعض الشهود ممن توقعت خروجهم
قبلي، وحمّلتهم أمانة نقل الخبر إلى الأهل.
كتب ذلك وهو ينظر نحو (شذى) بود، وكأنه يخبرها بأنه أوفى
بوعده لها عندما أخبرها أنه لن يحدث أي شيء دون رغبتهما.
هنا تهللت أسارير الجميع في سعادة غامرة مع شعورهم
بالارتياح، مما دفع الشيخ ليقول بثقة: إن كان الأمر كذلك،
فالزواج الثاني صحيح بانتهاء عقد الزواج الأول بالطلاق، فمبارك
لهما، ورزقهما الله الذرية الصالحة.
احتضن (مازن) يدي (شذى) بين يديه، وهو ينظر إلى عينيها
مباشرة، ويقول في حب: أنتِ لي…
يتبع







































