كانت المفاجأة قاسية على (مازن)، حتى إنه توقف اللحظات لا يدري كيف يتصرف أو يتخذ قرارًا مهمًا ومصيريًّا لا يتعلق فقط بحياته، ولكنه يتعلق بصحة وسلامة من يحب.
تساءل في حيرة وقلق: هل يعقل أن ينهار الحلم هكذا وهو على وشك تحقيقه!
ربت الشيخ على كتفه، وهو يقول مواسيًا: لا تحزن يا بني، فكل ما يحدث بالحياة قد قَدّره الله علينا، ولا شك أن هناك حكمة قد لا
تدركها عقولنا القاصرة، ونظرتنا الأنية بوقتها، ولكن –ومما لا شك
فيه– سندرك هذه الحكمة بوقت ما، لنعلم ونتيقن أن الله عندما يدبر لنا فهو الخير لنا.
(مازن) بتوسل، وكأنه يرجوه: ولكن هل أنت متأكد يا فضيلة الشيخ، أنه لا يوجد أي مخرج شرعي لذلك الأمر؟
الشيخ بثقة ويقين: هذا هو شرع الله يا ولدي، الذي لا تحايل فيه، وهو لحفظ الحقوق بين العباد وبعضهم.
لم يكن حزن (مازن) ينبع فقط من عدم إتمام زواجه من (شذى)، ولكن لأنه يدرك جيدًا أن لكل ثانية تأخير بالسفر ثمنًا
غاليًا تدفعه (شذى) من سلامتها وصحتها ألمًا ووجعًا لا يحتمل.
تحدثت والدته لتقطع استرساله بأفكاره، وهي تقول بيقين وثقة:
لا تحزن يا بني لعله خير، وليقضي الله أمرًا كان مفعولًا.
ثم ينهض الجميع لمغادرة مكتب المأذون، ومن ثم يستأذن رفيقيه بالعمل للانصراف، بعد أن شعرا بالخجل والحزن من أجله، وهما يطيبان خاطره ببعض الكلمات الودودة.
على عكس مجرى الأمور، وعلى عكس تلك المشاعر المتضاربة والمتباينة بين الجميع، كانت هناك ابتسامة رقيقة تزين شفتي (شذى).
ابتسامة لم يدرك (مازن) بوقتها سرها أو معناها، ليتساءل بينه وبين نفسه عن مغزى هذه الابتسامة، وذلك الشعور بالرضا والطمأنينة على وجهها، فهل من الممكن أن تكون ابتسامة رضا لعدم عقد القران! هل يعقل ذلك حقًّا! أو ربما تكون ابتسامة خجل لتدارك
هذا المأزق، والذي لم يخطر على بال أي أحد!
عاد (مازن) يصطحب الجميع بسيارته ليقودها شارد الذهن، والكثير من الأفكار تتزاحم برأسه، وتكاد تفتك به دون أن يجد إجابة لهذه التساؤلات.
تُرى! كيف ومتى يستطيعون إثبات موت (باسل)؟!
هو يعلم جيدًا أن ذلك وبظل الظروف الراهنة هناك بسورية يكاد
يكون صعبًا، بل ومستحيلًا، فما زالت الصورة ضبابية والشكوك
تحيط بالجميع، مع عدم إعلان أسره من قبل أي فصيل.
تنهد وهو يقول بصمت: لله الأمر من قبل ومن بعد.
l
باليوم التالي..
مازن مع (شذى) ووالدتها لتناول جرعة الكيماوي، والتي حددها
الأطباء بمرة واحدة كل أسبوع حتى موعد السفر، وإجراء عملية
زراعة الخلايا الجذعية.
لا شك أنك عندما تذهب إلى المستشفيات سيخيل إليك للوهلة
الأولى أن الجميع مرضي، وأنه لا أحد يتمتع بالصحة.
بالمستشفيات عالم آخر، وحياة غير الحياة التي تعودت عليها بالخارج، هنا سترى ما لم تره بأي مكان آخر، هنا عالم كبير يكتظ
ويضج بآلام البشر ومعاناتهم، وكأنه سوق وبضاعتها مزيج من الوجع
والألم، أما روادها فلكل منهم ألمه وهمه الخاص.
سوف ترى بعينيك كيف أن الإنسان ضعيف، بل هو ضعيف جدًّا وهش، هنا لا مكان لتلك الأقنعة التي تزين الوجوه بالخارج،
فقلما تجد قناع القسوة أو قناع الغش والخداع، فقط سترى ملامح
الإنسان الحقيقية مزينة بتعابير الألم..
هنا فقط ستدرك أهمية الصحة، وكيف أنها كنز الإنسان الحقيقي، وسنده عندما يخونه كل شيء، وعندما تخذله الدنيا بكل ما فيها من زخرف ومتاع.
بالمشافي فقط ستدرك أهمية كل ما وهبنا الله من نعم غير محسوسة أو ملموسة، نِعَمٌ نكاد ألا نشعر بوجودها من كثرة ما ألفناها وتعودنا على وجودها.
كان المستشفى –ورغم أنه خاص، وذو مصروفات مرتفعة يكتظ بالبشر، وذلك لتنوع الأقسام به. بالمقارنة مع المستشفيات الحكومية– إلا أنه كان يعج بجميع أنواع المرضى
بنظرة واحدة لقسم الكلى، سترى قدرة الله وعظمته تتجلى بما وهبنا من كلى، تقوم بتنظيف وتنقية الدم كل يوم عشرات المرات
دون أي جهد أو ألم، بل دون حتى أن نشعر بذلك، بينما هناك وعلى جهاز الغسيل الكلوي متعدد الوصلات والمراحل ستجد
أحدهم بجلسة للغسيل الكلوي مرة واحدة أو مرتين بالأسبوع مع
آلام وأوجاع لا تحتمل.
لن أحدثكم عن بقية الأقسام، مثل العظام والحوادث والأمراض الوبائية، وأمراض الكبد والقلب، ولكنني على ثقة تامة ومطلقة، أن
قضاء يوم واحد بأحد المستشفيات وبين المرضى، ومن ستراهم يعانون سكرات الموت أمامك حتى يلفظوا آخر أنفاسهم، ربما يغير هذا اليوم نظرتك للحياة ومفهومك لها للأبد، وستراها من منظور
مختلف عما قبل، قد يغير مسار الحياة ونظرتك لها لوقت طويل.
الحياة قبل أن تعايش المرض بنفسك أو مع أحد المرضى ممن
تحب لن تصبح أبدًا نفسها بعد ذلك، كونوا على ثقة ويقين من ذلك.
كان (مازن) يشفق على (شذى) مما هي مقبلة عليه، فهو يدرك جيدًا بحكم عمله وخبرته مدى ذلك الألم الذي ستختبره (شذى)
بعد قليل..
كم هي قاسية ومؤلمة هذه الجرعة المميتة من ذلك الكيماوي
الحارق، والذي سيجري مجرى الدم من الشرايين، فيحرقها ويكاد
أن يفتك بها.
ما إن بدأ الطبيب بإيصال المحاليل بشرايين (شذى)، حتى حاول (مازن) أن يرفع من روحها المعنوية بمنحها ابتسامة تعبر عن
مساندته ودعمه لها.
حاولت (شذى) أن تتظاهر بالقوة والثبات، كانت تحاول من
خلال ابتسامتها الباهتة أن تخفي ما تشعر به من آلام رهيبة فوق قدرة
هذا الجسد النحيل على الاحتمال.
كان (مازن) –وبحكم عمله بالصيدلة قد درس التركيبات الدوائية– يدرك جيدًا أن تلك الجرعة وما إن تدخل الجسد حتى
تصبح كالنيران التي تنتشر بالهشيم، لتحرق الأوردة بلا رحمة أو هوادة، فعمل الكيماوي هو قتل تلك الخلايا السرطانية حتى لا
تنتشر وتتوغل لتتغول على الجسد، ولكنه وخلال ذلك يقتل الكثير
من الأشياء الأخرى، فهو وإن كان يقتل الخلايا السرطانية، إلا أنه وبطريقة ما يحيي ألمًا ووجعًا لا يدرك حجمه إلا من اختبر ذلك
وعانى منه وتعايش معه.
لساعات طوال يمر المحلول ببطء وألم داخل شرايين (شذى)، بينما جسدها يرتعش وكأن درجة حرارة جسدها تحت الصفر، بينما
كان العرق يتصبب على جبينها، فلا تدرك أيهما أشد قسوة وألمًا،
أذلك الصقيع وارتعاشة جسدها، وارتجافته، أم هو ذلك السعير
المشتعل بشرايينها!
كانت (نسرين) تمسح جبينها ببعض المحارم الورقية، ودموعها تنساب على وجنتيها بصمت، وهي تضغط على يدها وتحتضنها لتمدها ببعض الشعور من الأمان والمساندة، لتنظر (شذى) نحوها بحب وهي تمسح تلك الدموع لتواسي والدتها، قائلة أنه قضاء الله
وأنها راضية به، وأنها حامدة صابرة وشاكرة.
بعد ساعات عدة، وبكل جلسة تنهي (شذى) جرعتها لتستند إلى والدتها حتى يصلا للسيارة، ثم تلقي بجسدها الصغير والمنهك
وكأنها قادمة للتو من ساحة للحرب والقتال، في مواجهة وحش
شرس وقاتل يحاول أن يفترسها بلا هوادة أو رحمة.
يتبع






































