حُمل (باسل) إلى إحدى الغرف لإجراء الفحوصات، ومن ثم،
وبعد عدة دقائق، خرجت الممرضة مسرعة لتقول لهم إنه يحتاج
لنقل دم، وأن فصيلة دمه O+، وهي غير متوفرة بالوقت الراهن
بالمستشفى.
من وراء الزجاج، وحيث كان يتم الاعتناء بـ(باسل) ونقل الدم
له، وقفت (شذى) بينما دموعها تنساب على وجنتيها، وهي تراقب
ذلك الأمر المذهل بالنسبة إليها وإلى (مازن)، وهو يسألها بدهشة
قائلًا: من يصدق أنهم منذ قليل كانا يتشاجران، وكل منهما يلقي
بالتهم على الآخر؟
استطرد يقول: من كان يراهما ويراقبهما سيظن أن كليهما يود
محو الآخر لو أتيحت له الفرصة.
(شذى)، وهي تتأمل ما تراه: هل تصدق ما تراه عيناك؟ هل
يحدث ذلك أمامنا بالفعل؟! قالت ذلك وهي تشير خلف الزجاج؛
حيث يقفان يشاهدان ذلك الشاب السوري وهو يتبرع بدمه لـ(باسل)
لإنقاذه.
(شذى) وسط دموعها، وهي تلقي برأسها على كتف (مازن)،
وتحتضن يديه برفق: ما تراه الآن يا (مازن) هي سورية الحقيقة،
سورية التي أحببناها بكل جوارحنا، فالدم الذي يجري بعروقنا
واحد منذ آلاف السنين. يعيش السوريون بمحبة وسلام، فلا فرق
بين شيعي أو سني أو درزي أو مسيحي أو حتى يهودي، يمارس
تدينه دون أن ينتمي للصهاينة الذين يشيعون بيننا الكراهية
والفرقة.
استرسلت تقول بحب: لقد تربينا ونحن نعلم أن ما يجمع بيننا
أكثر وأكبر مما يفرقنا. تنهدت وهي تقول: هذه سورية التي نحلم
بها وندعو الله أن تعود إلينا.
بإحدى الكافيهات بمطار القاهرة الدولي، كان الجميع يودعون
(شذى) و(مازن)، وهما في طريقهما إلى لندن لإجراء العملية
الخاصة بزراعة الخلايا الجذعية بعد استيفاء جميع الإجراءات.
جلس (باسل) على إحدى الطاولات يتابع باهتمام إحدى القنوات
الفضائية، والتي تنقل أوضاع أحد مخيمات اللاجئين على حدود
إحدى دول الجوار.
كانت الكاميرا تتجول لنقل المأساة بكل تفاصيلها خلف تلك
الفتاة، مقدمة البرنامج، والتي كانت تقول بحزن وألم يمتزجان
بالغضب: عندما تموت الضمائر فلا حياة لمن تنادي... عندما
يموت الأطفال بردًا وجوعًا فلن أسألكم عن الضمير. عندما
يتحول الموت إلى تجارة، والموتى إلى أرقام، فلن أسألكم أو
أحدثكم عن الضمير. عندما تُباع الأوهام على قارعة الطريق
فلن أحدثكم أو أسألكم عن الضمير...
أردفت تقول بألم: ولكن، وبينما تملؤون بطونكم، وتحتضنون
أطفالكم، وتنعمون بالدفء، تذكروا أنكم بصمتكم لم تخذلونا
نحن فقط، ولم تقتلونا نحن فقط، ولكنكم قتلتم قبل ذلك
ضمائركم، بل والإنسانية جمعاء.
ما إن انتهى البرنامج حتى لاحظ (باسل) دموع (سمر) التي
تنساب بغزارة على وجنتيها؛ ليقوم بمسح دموعها، وهو يقول:
ما دام هناك مثل (تالة)، فلا شك لدي أن سورية ستعود بسواعد
وفكر وضمائر أبنائها.
لتقاطعه (سمر) بغيرة فشلت في إخفائها، وهي تسأله: ومن
تكون (تالة) يا سيد (باسل)؟
ابتسم (باسل) وهو يشير نحو الفتاة مقدمة البرنامج، وهو
يقول: إنها (تالة)، وجه سورية النقي، وحتى أخبرك بقصتها
فالأمر سيطول ويحتاج فنجانًا من القهوة بالهيل.
أنهى (مازن) إجراءات المطار، وتقدما نحو بوابة المغادرة،
ليصطف الجميع لوداعهما، يلوحون لهما مودعين، بينما الدعوات
تلاحقهما بعودتهما سالمين بعد أن يمنّ الله على (شذى)
بالشفاء.
انسابت دموع والدة (مازن)، وهي تشعر بالتأثر الشديد، ربما
لأن هذه أول مرة يغيب فيها (مازن) عن المنزل، لتقول: لقد
أصبحت وحيدة!
لترد عليها (سمر) معاتبة، وهي تقطب ما بين حاجبيها: كيف
تقولين ذلك يا خالتي، وأين ذهبنا نحن؟
والدة (مازن) بحب: أنتِ مع زوجك (باسل) يا بنيتي، وستعود
والدة (شذى) ووالدها وابنتهما سويًا، أما أنا فالله معيني.
ما إن أنهت عبارتها حتى وجدت (روان) تطوقها بذراعيها،
وهي تقول بعفوية: لن تكوني وحدك أبدًا، فقد عاهدت (شذى)
و(مازن) أن أظل معك لحين عودتهما.
لتتدخل والدة (شذى) بالحديث، وهي تقول بحب: نحن الآن
أصبحنا أسرة واحدة وأهلًا، ولن يتخلى أحدنا عن الآخر.
أمّن الجميع على قولها، وهم يعودون أدراجهم إلى البيت،
يحدوهم الأمل وحسن الظن بالله أن يلتئم شمل الجميع مرة
أخرى بعودة (مازن) و(شذى).
ما إن صعد (مازن) و(شذى) على متن الطائرة واستقرا على
مقاعدهما حتى طوّق (مازن) (شذى) بذراعيه، وهو يحتضنها
بعينيه في نظرة حب واحتواء، ليقول: الآن فقط آن لهذا القلب
أن يهدأ، وحق للروح أن تستكين، فبين يدي أجمل وأروع فتاة
بهذا الكون!
توردت وجنتا (شذى) خجلًا، وهي تقول: هل تذكر عندما
أخبرتني بأنك ثاني أسعد رجل بالعالم؟
ابتسم (مازن) وقد فطن لسؤالها، ليقول: وبالطبع تود أميرتي
أن تعلم من هو أسعد رجل بالعالم، أليس كذلك سيدة قلبي
وتوأم روحي؟
لتجيبه (شذى) بابتسامة ساحرة، وهي تقول: نعم يا مالك
القلب ونبضه!
عاد (مازن) بمقعده إلى الوراء، وهو يقول: عندما تقطبين ما
بين حاجبيك، يجعلني ذلك أبتسم فأصبح ثاني أسعد رجل
بالعالم، وعندما أجعلك تبتسمين أصبح أسعد رجل بالعالم.
تمت بحمد الله تعالى







































