بعد عدة أيام
والدة (مازن) وهي تسأله عن (شذى): وهل يجدي العلاج معها هنا بمصر، أم أنها ما زالت تحتاج للسفر؟
(مازن): للأسف يا أمي كل ما نفعله هنا ليس سوى محاولة لتحجيم الورم، وإيقافه حتى لا ينتشر ويستشري بجسدها.
الأم بتساؤل: ولماذا لا يتم استئصاله؟
(مازن): الاستئصال لن يكون نهاية الأمر؛ لأنه سيعود ويستشري بمكان آخر والكيماوي لن يكون كافيًا للقضاء عليه.
الأم: ولكن هل سيكون العلاج بالخارج مجديًا؟ أردفت تتساءل
بتوجس: ماذا سيحدث هناك غير ما قد يحدث ويمكن فعله هنا؟
(مازن) بحزن وأسى: للأسف يا أمي بحالة (شذى) لم يتم الكشف عن المرض مبكرًا، فقد كان سيصبح الأمر أكثر سهولة لو
تم اكتشافه قبل ذلك، وبمرحلته الأولى أو الثانية.. تنهد بحزن وهو
يقول: أما الآن فالمرض لديها بالمرحلة الرابعة، والأمل الوحيد
هو إنتاج نخاع جديد عن طريق زرع الخلايا الجذعية، بدلًا من
النخاع الذي دمرته الخلايا السرطانية، ويمكننا الاستعانة بالخلايا الجذعية سواء منها شخصيًّا، إن كان متاحًا أو من خلال متبرع
تتطابق أنسجته معها.
الأم: ولكن ألن يكون هذا مكلفًا للغاية يا بني، خاصة أن ذلك
سيكون بإحدى الدول الأوربية وبالعملة الصعبة؟
(مازن): نعم يا أمي، هو كذلك! لهذا أردت أن أستأذنك بكسر الوديعة بالبنك وبيع قطعة الأرض التي نمتلكها للسفر والعلاج
والإقامة.
نظرت الأم إليه، وهي تطالع نظرة التوسل والأمل بعينيه، وكأنه
يرجوها ألا ترده خائبًا لتقول، وهي تقترب منه وتضع يديه بين يديها
بحب وود: تعلم يا (مازن) أنك وحيدنا، وقد حاولنا أنا ووالدك قدر
جهدنا توفير حياة كريمة لك، ولله الحمد قد نجحنا برسالتنا تلك،
وأديناها على أكمل وجه، والآن أنت قد أصبحت رجلًا ناضجًا، ويمكنك اتخاذ القرارات المصيرية بحياتك. ابتسمت بحنو وهي
تقول: أعلم يا بني أنك تحبها، وأنا كذلك يشهد الله أنني أعتبرها
كابنتي، فافعل ما شئت متى شئت.
(مازن) وهو يقبلها فوق رأسها قائلًا: حسنًا يا أمي، سأقوم بزيارتهن لتحديد موعد قريبًا لعقد القران ولنعجل بالسفر وبدء العلاج.
تحدث (مازن) مع السيدة (نسرين) بوجود (شذى) وطلب منها
تحديد موعد لعقد القران.
والدة (شذى) بود: تعلم يا بني أنني لا أمانع ذلك، كذلك
(شذى). قالت ذلك وهي تنظر نحوها لتشيح (شذى) بوجهها خجلًا.
استطردت تقول: كذلك زوجي، فقد أوكل لي مهمة البيت والأسرة، خاصة بغيابه، لأنه أمضى الكثير من حياته، وهو يعمل
بالخليج لتوفير حياة كريمة لنا، ولله الحمد قد نجح بذلك، ولنا رصيد بالبنك تم تحويله إلينا من خلال الواسطة، وإن شاء الله يكفي لعلاج (شذى) وزواجها، ولكن وكما جرت الأصول والعادة،
يجب أن أخبر ذويها، خاصة عمها والد (باسل) وأخوالها ولا أعتقد
أنهم سيرفضون ذلك.
(مازن) وقبل أن يغادر: حسنًا يمكنك إخبارهم كما تحبين اليوم أو غدًا، أوبعد غد وعقب صلاة العشاء سوف نذهب إلى المأذون مع
الشهود لإتمام الأمر إن شاء الله.
والدة (شذى) بتردد: حسنًا يا بني، فقط ادع ُ الله أن تكون
الاتصالات متاحة للحديث مع الأهل، خاصة أن هناك حزنًا يسكن
قلوب الجميع بعد استشهاد (باسل) وعدم استرداد جثمانه إلى الآن، وهم بانتظار عملية تبادل.
(مازن) بحزن: صدقيني لو كان الأمر يتعلق بالزواج فقط لانتظرنا حتى يداوي الزمن جراحهم، ولكن الأمر يتعلق بصحة
(شذى) وسلامتها.
(نسرين) باستسلام مؤمّنة على عبارته مبدية تفهمها له لتقول:
أعانني الله على هذا الأمر، وتحسبًا لانقطاع الاتصالات، فسوف أشرح لهم الأمر برمته برسالة، وأرسلها لهم وانتظار ردهم بالموافقة
إن شاء الله.
l
بعد عدة أيام، وبعد تأخر رد العائلة، كانت (نسرين)، وفي محاولة منها لإنقاذ (شذى) مضطرة لتحديد موعد لعقد القران، وهذا ما حدث بالفعل، فقد تواجد الجميع بمكتب المأذون؛ حيث تتواجد (شذى) وأختها، كذلك(مازن) ووالدته، و(تامر) و(أشرف) صديقا (مازن)، والذين يعملون بصيدليته، كانت (شذى) رغم
شحوبها وأثر المرض على ملامحها، تبدو كالأميرات بفستان سهرة طويل وحجاب يغطي شعرها، وبعض الزينة الخفيفة، والتي تناسب
ملامحها الملائكية.
لاحظ (مازن) توتر (نسرين) وهي تقلب وجهها ما بين الهاتف ووجوه الحاضرين، ظن (مازن) ببادئ الأمر أنها حزينة لوجودها
وحدها بمثل هذا اليوم بعيدًا عن بلدها، وبدون زوجها، لينظر نحوها بابتسامة لطيفة وهو يقول بود: لماذا كل هذا التوتر والقلق، ليتك
تتماسكين قليلًا حتى لا ينتقل هذا التوتر إلى (شذى). استدرك قائلًا بحب: أريده يومًا جميلًا لـ (شذى) وقد أعددت لكل شيء، فما إن ننهي عقد القران حتى نتوجه جميعًا إلى الفندق لقضاء سهرة عائلية هناك، وبعد العشاء سنقضي أنا و(شذى) ثلاثة أيام بالفندق، وبعد ذلك نبدأ بإجراءات السفر والعلاج إن شاء الله...
وقبل أن يستطرد في حديثه، كانت والدة (شذى) تمسك بالهاتف، وهي تقول: ليس هذا ما يقلقني يا بني، ولكن وبعد أن
فشلت بالاتصال بالأهل بسورية، فقد أرسلت لهم كما أخبرتك رسالة مطولة على الواتس أشرح لهم فيها كل شيء بخصوص مرض (شذى) والزواج والسفر للخارج.
(مازن): وهل وصلتهم الرسالة؟
(نسرين): نعم وصلت.
(مازن) وقد شعر بالقلق: لا تقولي إنهم رفضوا الزواج أو طلبوا التأجيل، فوضع (شذى) لا يحتمل أي تأخير، صدقيني هذا ليس
بمصلحتها.
(نسرين): ليس الأمر هكذا يا بني! ولكن حتى الآن لم يأت ِ الرد رغم قراءتهم لرسالتي.
(مازن) وقد شعر ببعض الارتياح ليتنهد قائلًا: ربما عدم الرد هو
إيذان بموافقتهم أو تفويضك بالأمر، ولا شك أنهم يدركون قدرتك على موازنة الأمور.
(نسرين): ربما يا بني! ربما!
هنا شَرَع َ المأذون بتجهيز الأوراق، وكتابة بيانات العروسين،
وبعد استيفاء كل الأوراق المطلوبة، وفي أثناء تلاوته لصيغة الزواج
على المذهب الحنفي، وهو المذهب الذي تنتمي له الأسرتان، وعند
ترديد صيغة الزواج وسؤاله للعروسين بالإيجاب والقبول، أتت نغمة رنين على هاتف والدة (شذى)، والتي ما إن سمعت تلك النغمة حتى أدركت أنها رسالة من الأهل، يردون فيها على رسالتها، لتخرج الهاتف من حقيبتها بلهفة، وهي تقرأ الرسالة بقلق لتعلم فحواها.
كان المأذون يلقنهم صيغة الزواج ليرددوا من خلفه، وفجأة وبدون
سابق إنذار وعلى حين غرة من الجميع، صرخت والدة (شذى) وهي
تقول بصوت مرتفع: توقف يا شيخنا من فضلك.. توقف عن إتمام هذا الزواج.
هنا توجهت جميع الأنظار إليها، قبل أن تضع يديها على رأسها
لتتفادى ذلك الدوار الذي ألمّ بها بعد قراءة الرسالة؛ لتجلس على
المقعد، وقد شحب وجهها حتى حاكى وجوه الموتى.
لحظات من الصمت، وكل الأنظار معلقة بها في تساؤل ودهشة قبل أن تناول (مازن) الهاتف؛ ليقرأ رد الرسالة القادم من الأهل بسورية، وما إن قرأ (مازن) الرسالة حتى نظر إليها بحيرة وهو يقلب بصره بينها وبين (شذى) قائلًا بحيرة وقلق: لم أفهم ماذا يقصدون
بهذا، وما معنى ذلك!
والدة (شذى): ألم تقرأ الرسالة! ألم تفهمها أم أنك لا تود
تصديقها يا بني! لم تترك له الوقت للرد، ولكنها أخذت نفسًا
عميقًا قبل أن تقول بحسم حتى الآن لم يجدوا جثمان (باسل) بين
الشهداء، ولم يتعرف عليه أحد بين الأسرى، ولم يتم دفنه بمقابر
الشهداء أو العائلة.
(مازن) بتساؤل: ألم يخبروكم من قبل أنه تم قنصه واستشهد
على الحدود؟! أليس هذا ما أخبروكم به!
والدة (شذى): نعم يا بني، وقد ظننت مثلكم أنه قد تم تأكيد
موته.
(مازن): وهل هناك فرق!
هنا تدخل الشيخ قائلًا بعد أن شرحوا له المسألة برمتها: انظر يا بني، لو كان الزوج السابق قد طلَّق دون أن يدخل بالزوجة لجاز لها
الزواج، ولو بنفس اليوم ودون أي عدة للزواج الجديد، ولو مات الزوج عن الزوجة لكانت العدة احترامًا ووفاء للميت أربعة أشهر
وعشرة أيام. استطرد يقول بحسم: ولكن وبدون التأكد من موت
الزوج السابق عن طريق شهود ثقة وعدول، وما دام ليس هناك
جثمان، أصبح الزوج بحكم المفقود، وهكذا لا يجوز للزوجة
الزواج شرعًا إلا بعد مضي مدة معينة، وهي أربعة سنوات تعقبها شهور العدة، مع البحث والتقصي، أو إعلان موته بحكم محكمة
بات ونهائي.
(مازن) بحزن وحيرة: ولكن كيف هذا؟ لا أكاد أصدق هل يُعقل هذا!
الشيخ: هذا هو الشرع والدين يا بني! وحتى لا تضيع الحقوق
بين العباد. استطرد يقول بصوت خفيض: أنا أريد وأنت تريد يا
بني، ولكنه القدر...
يتبع






































