بعد عدة أيام، وبعد أن أنهى (باسل) فترة تأهيله تحت إشراف
ورعاية (سمر)، توجهوا جميعًا إلى إحدى المستشفيات لمراجعة
أحد أطباء الجراحة لإجراء عملية جراحية ليد (باسل)، من خلال
تنشيط الأوردة والشرايين لتستعيد قدرتها على الحركة مرة أخرى.
كان (باسل) قد استعاد الكثير من عافيته، فمن يراه الآن لا
يصدق أبدًا أنه نفس الشخص منذ عدة أيام، وقد بدا أن هناك
انسجامًا واضحًا بينه وبين (سمر)، بدا جليًا من خلال أحاديثهما
المتعددة والودودة.
(شذى) وهي تغمز لـ(مازن) قائلة: يبدو أن اهتمام (سمر) بـ
(باسل) وعلاجه نفسيًا ومعنويًا بالأيام السابقة جعله يرتاح لها، وقد
أتى بثماره سريعًا، فهل لاحظت ذلك؟
(مازن) مؤمّنًا على قولها: معك حق، فقد أخبرتني والدتي أن
(سمر) لا تكف عن الحديث عنه وعن أخلاقه وأدبه الجم، وعلمه
ورجاحة عقله، وقوة شخصيته رغم كل ما عاناه.
(شذى) متسائلة: وهل تظن أنهما قد...
(مازن) مقاطعًا، وقد أدرك سؤالها قبل أن تسأله ليقول: ولم لا؟
ربما يجد كل منهما سلواه بالآخر.
(شذى) بحب: حقًا من يدري! وكم أتمنى ذلك حقًا! فـ(باسل)
ومنذ فقد (رهف) بدا وكأنه قد أغلق قلبه عمّن عداها.
ليقول (مازن) وهو يتأملهما عن بعد: حتى أنا ظننت أن (سمر)،
وبعد تجربتها الأخيرة وفشل زواجها، ربما لن تقدم على مثل هذه
الخطوة.
(شذى) وهي تنظر لعيني (مازن) وتضغط على يده برفق: ما
يسعدني جدًا هو أن (سمر) و(باسل) قد تمسكا بتلك الفرصة التي
منحها لهما القدر.
(مازن) وهو يطالع عينيها بحب: الحياة يا (شذى) لا تتوقف،
ولكنه القدر فقط من يغير مسارات حياتنا، حتى إننا، وبعد أن
تتغير وجهتنا، ندرك أن تغيير المسار كان يقودنا إلى وجهتنا
الحقيقية دون أي تخطيط منا أو دراية.
(شذى) بحب: نعم، ورغم كل الصعوبات التي تواجهنا والآلام
التي تلامس أرواحنا، فإننا لا نستسلم، بل إننا بين كل قدر وقدر
نرجو من الله قدرًا تطيب به أرواحنا وتقر به أعيننا وقلوبنا.
أثناء انشغال (سمر) بإنهاء الأوراق، وانشغال (شذى) و(مازن)
بالحديث الجانبي الدائر بينهما، كان هناك شاب سوري آخر يبدو
أنه قد تعرف إلى (باسل) من خلال لهجته الشامية وملامحه
المميزة، ليبدأ بينهما حديث ودي؛ حيث كان الحنين إلى الوطن
هو ما يوحد مشاعرهما.
وما إن تباينت وجهات النظر بينهما حتى كاد يحتدم النقاش ليخرج
عن نطاق السيطرة، وسرعان ما كان كل منهما يتحدث برؤية
مغايرة للآخر، ويراها بمنظور مختلف.
انبرى الشاب السوري يقول بحماس وغضب: عن أي ربيع عربي
تتحدث؟ ألم تدرك بعد أنه ربيع عبري، وأنها ليست سوى مؤامرة
خبيثة تحاك علينا لإضعافنا؟
استطرد يقول بحزن: انظر كيف كنا وكيف أصبحنا! أيعجبك ما
حدث من خراب ودمار أنهك الاقتصاد وأفقر الناس؟! بفضل ربيعك
العربي أصبحنا نعاني الشتات.
ليسترسل قائلًا: أنت وكل من يؤيد هذا الربيع المزعوم لستم إلا
مغيبين أو عملاء تنفذون أجندات خارجية، حتى تعود سورية إلى
التخلف وتعاني الانهيار.
هنا انفجر (باسل) غاضبًا وهو يقول بانفعال بدا واضحًا على
ملامحه وارتجافة صوته: هلّا أخبرتني ما هي جريمتنا من وجهة
نظرك؟ هل يمكنك أن تخبرني عن تلك الجريمة، وذلك الإثم الذي
ارتكبناه لنستحق عليه التعذيب والتهجير والموت؟
هل يمكنك أن تخبرني؟!
نظر إلى عينيه مباشرة، وهو يقول بحزن وألم: هل رأيت
المخيمات يا صديقي؟! هل تعلم كيف هي الحياة بالمخيمات؟!
عاد بذاكرته إلى الوراء، وهو يقول بأسى: عندما تم تسليمنا
لمنظمة الإغاثة، مكثت أنا وعمي بأحد المخيمات بلبنان لأسبوع
حتى أتعافى من جراحي، وهناك رأيت الموت رفيقًا دائمًا
وعادلًا، فهو لا يفرق بين رجل أو امرأة، بين كهل أو شاب، بين
شيخ أو صبي.
سالت دموعه وهو يقول بحزن وأسى: هل رأيت ماذا يحدث عندما
يتسلل الشتاء إلى شرايين الأطفال حتى تتجمد فيموتون بحضن
والديهم، والذين لا يمتلكون لهم غذاء ولا تدفئة، فيستسلمون بلا
حول أو قوة؟!
قاطعه الشاب بغضب قائلًا: وهل تظن أنني لا أعلم عن ذلك؟!
أردف يقول بغضب: بهذه المخيمات فقدت أمي، بهذه المخيمات
فقدت كرامتي، ولكن أليست تلك الحرب التي أشعلتموها بسبب
ثورتكم المشؤومة هي من أوصلتنا إلى هذا؟
(باسل) بحدة: إن كنت لا تدري فتلك مصيبة، وإن كنت تدري
فالمصيبة أعظم، ولكن لدي سؤال واحد لتجيبني عليه، وهو: هل
يستحق الجلوس على كرسي الحكم كل هذه الدماء؟!
صمت الشاب للحظات وهو يحدجه بغيظ، متمتمًا بهمهمات غير
مفهومة، ليرد (باسل) قائلًا: مهلًا ولا ترهق نفسك كثيرًا، فأنت لا
تمتلك الجرأة لتخبرني، ولكنك ستظل تردد ما تسمعه من الإعلام
المضلل، وتلك الأكاذيب التي –ومن كثرة ما سمعتها صدقتها–
وأصبحت ترددها كالببغاء.
صمت قليلًا ليقول بعدها بحزن: ولكننا أيضًا مذنبون... نعم
نحن مذنبون ومجرمون، ولا أعفي نفسي أو من كان مثلي من
جرمه.
نظر (باسل) من حوله وقد التف الكثير من الشباب حولهما
يتابعون ما يدور بينهما من نقاش، وقد بدا أنهم –وكالعادة–
أصبحوا فريقين؛ بعضهم يؤيد (باسل) وبعضهم يؤيد الشاب
الآخر.
تجول (باسل) بين الوجوه ليقول بصوت حزين: سأخبركم عن
جريمتنا التي استحققنا عليها كل ذلك، جريمتنا التي دفعنا وما
زلنا ندفع ثمنها حتى الآن، سجن وتعذيب وتهجير ومطاردة،
جريمتنا التي دفعنا ثمنها من أرواحنا ودمائنا، من أمننا ومن
حريتنا.
لحظات من الصمت خيمت على الجميع، قبل أن يصرخ (باسل)
بأعلى صوته: جريمتنا هي الحلم!
نعم، فالحلم بالحرية جريمة!
الحلم بالعدل والمساواة إثم!
الحلم بغد أفضل ذنب لا يُغتفر!
قال هذا بانفعال شديد ووسط دموعه المنهمرة، ثم قال: هذه
جريمتنا الحقيقية يا أخي، والتي دفعنا وما زلنا ندفع ثمنها إلى
الآن.
قال الشاب بأسى: وهل تحقق هذا الحلم المزعوم؟! بل هل
استحق هذا الحلم ذلك الثمن الباهظ؟!
أردف يقول بغضب: حبي لوطني وأمنيتي أن ينعم بالأمن
والاستقرار هو السبب الوحيد لأن أقف هذا الموقف الآن.
نظر (باسل) إلى عينيه مباشرة، وهو يقول بتساؤل: هل تظن أنك
تحب سورية أكثر مني؟! هل تعتقد أنك أكثر وطنية مني؟!
ثم قال بصوت خفيض: أخبرني يا صديقي... لماذا لا يحبها كل
منا بالشكل الذي يراه مناسبًا؟! أليس الاختلاف سنة الله
الكونية؟! لماذا التخوين والتكفير؟
استطرد يقول برجاء: ألا ترى أن الهدف كان نبيلًا ويستحق
شرف المحاولة؟
قال الشاب الآخر بحدة: ربما يكون الهدف نبيلًا كما تقول، ولكن
انظر من الذي قام باستغلاله لينقض عليه!
استرسل يقول بغضب: ألا ترى من استغلوا ذلك لتدميرنا، وبث
السموم بيننا، وإشاعة الفرقة والعداوة بين أبناء الوطن الواحد؟
قال (باسل): ومن قال لك إن هؤلاء يمثلوننا؟! أبدًا يا صديقي،
هم أبدًا ليسوا منا ولسنا منهم، وأبدًا لن يكون لهم ما أرادوا،
وستخيب كل مساعيهم إن شاء الله.
أردف يقول بحزن: هم ليسوا إلا مرتزقة يحاربون بالوكالة عن
دول أخرى لها أهداف خبيثة، وللأسف هناك –ومن بني جلدتنا–
من يوفرون لهم الغطاء الشرعي للقتل والتدمير.
ما إن أنهى (باسل) عبارته، حتى مادت الأرض من تحت قدميه،
ليسقط مغشيًا عليه وسط ذهول وقلق الجميع.
يتبع







































