منذُ فارقت زوجته الحياة، وتفرَّق أولاده كلٌّ منهم إلى حال سبيله ما بين غُربةٍ عن الوطن أو غربة داخل الوطن وهو يعيش وحيدًا، فلا مُؤنِس له ولا رفيق، أحيانًا يشعر أنه قد تعرَّض للخيانة من الجميع حتى زوجته المتوفاة، لمَ تركته هكذا وحيدًا وهو في أضعف حالاته؟ هل هناك مَن ترتضيه زوجًا ورفيقًا للحياة وقد ولَّى زمن الشباب؟ فقط مَن بدأ الرحلة يمكنه أن يُنهيها، مَن قد يركب القطار في منتصف السكة إلا مَن أرغمته الظروف، حتى أولاده كلٌّ منهم يُغنِّي على ليلاه، يظنون أنهم باتصالهم به كل عدة أسابيع يقومون بواجبهم نحوه على أكمل وجه، لا شكَّ أنه أخطأ في تربيتهم، بالتأكيد هناك شيء خاطئ، هل كانت هذه زرعته ليكون هذا حصاده؟ ما إن يفكِّر هكذا حتى يستغفر الله ويعود إلى رُشده.
يبدأ يومه بالاستيقاظ باكرًا كعادته قبل بلوغه سن المعاش، ما إن يتناول إفطاره حتى يخرج من بيته لا يلوي على شيء، يشتري الصحيفة كل يوم، يجلس على المقهى وحيدًا يقرأ صحيفته من أول ورقة حتى آخر ورقة، لا يهم إن كانت الأخبار معتادةً أو مكرَّرة، كل ما يهمُّه أن يمضي الوقت، ينهض من مقعده على المقهى يهيم بالشوارع بلا هُدى ليعود مرة أخرى إلى المقهى عقب صلاة العشاء، عساه يلتقي أحد أصدقائه القُدامى أو يجالس عابر سبيلٍ بلا سابق معرفة، يظل هكذا يصارع الوقت حتى يخبره عامل المقهى بانتهاء اليوم، ينهض بأقدامٍ متثاقلةٍ لا تكاد تحمل جسده المتهالك وروحه المنهَكة، ما إن يصل إلى البيت حتى يُلقي بجسده فوق فراشه متمنيًا نومًا سريعًا بلا تفكير في ذكريات الأمس أو هَمِّ الغد، وهكذا تمضي أيامه متشابهةً مثل أخبار الصحف، قبل نومه مباشرةً تذكَّر حديثه مع أحد رفاق المقهى الذي نصحه بألَّا يستسلم للوحدة، أخبره أن يجد مَن يُؤنِس وحدته، ظنَّه ينصحه بالزواج، وقبل أن يعترض على المبدأ وجده يخبره وينصحه باقتناء حيوان أليف كلب مثلًا أو قطة، تأفَّف قائلًا في اشمئزازٍ وسخرية بينما أحتاج أنا لمن يخدمني:
- هل أحضر بالبيت مَن أخدمه؟
صمت رفيقه قليلًا قبل أن يقول وقد تهلَّلت أساريره:
- إن كنت لا تهوى تربية الكلاب والقطط فيمكنك أن تقتني عصفورًا.
لمَ لا؟ هكذا حدَّث نفسه، عصفور داخل القفص لا يحتاج لأي جهد، فقط بعض الحبوب قد تكفيه لعدة أسابيع وبعض الماء، راقت له الفكرة فقرَّر تنفيذها فور استيقاظه صباح الغد.
منذُ اشترى العصفور تغيَّرت أحواله فلم يعُد يجلس على المقهى، ولم يعُد يمضي ساعات يومه هائمًا على وجهه بالشوارع، حتى إنه لم يعُد يقرأ الصحيفة، لبضعة أيامٍ متتاليةٍ يقضي ساعات النهار والليل أمام العصفور، يا له من عصفورٍ جميل ذي ألوانٍ متعدِّدةٍ وزاهية، كما أنَّ صوته وهو يغرِّد جميل مثل قيثارة أو عزف ناي محترف، ارتاح لوجوده معه حتى إنه أصبح يشكو له حاله ويبثُّه همومه، استعاد شريط حياته، ماضيه كله أصبح ماثلًا أمام عينيه، أخذ يتحدَّث بالساعات بلا ملل، يشكو عقوق أولاده ورحيل زوجته وعدم وفائها، حتى إنه كان يشكو له سوء الأحوال الجوية وتغيُّر الطقس، مع مرور الوقت لاحظ قلة نشاط العصفور فلم يكترث، ربما لم يعتَد على المكان، ظلَّ يشكو ويشكو بلا توقُّف، عندما ذهب ليضع الحبوب بالقفص انتبه لوجود الحَب السابق كما هو دون نُقصان، تساءل في دهشة:
- تُرى لمَ توقَّف عن الأكل؟
لا يهم، عندما يجوع سيأكل، تذكَّر كيف تعرَّض للظلم أثناء عمله، وكيف ضحَّى من أجل إخوته دون أن يجد أي مقابل لتضحيته، أثناء شكواه المعتادة أمام قفص العصفور لمح بطرف عينيه انزواء العصفور بأحد أركان القفص وقد بدا عليه الشحوب والهُزال، كان قد توقَّف تمامًا عن الحركة أو الزقزقة أو حتى الطعام، هنا قرَّر أن يأخذه ويعرضه على الطبيب صباح الغد.
اليوم التالي ما إن استفاق من نومه وتناول إفطاره حتى توجَّه إلى قفص العصفور؛ أملًا في تحسُّن صحته، فهو الآن رفيق وحدته وأنيسه في ليله ونهاره، عندما اقترب من القفص شعر بالانقباض، فالعصفور يرقد بأرضية القفص بلا حراك، قلَّبه بين يديه فلم يشعر بأي نبضٍ أو حركة، كان فاقدًا لكل مظاهر الحياة، شعر بالحزن والألم، ها هو رفيق جديد يغدُر به بعد أن منحه الحياة، ها هو قد تخلَّى عنه كما فعل الجميع.
بحزنٍ ارتدى ملابسه، ثم غادر البيت قاصدًا المقهى ليقرأ صحف الأسبوع الماضي في انتظار عابر سبيلٍ يشكو له سوء حظه مع جميع المخلوقات.
تمت