بأُمسية ممطرة وليلٍ حالك السواد جلس أحدهم بجوار إحدى المقابر المتناثرة بأطراف القرية، كان رثَّ الثياب يبدو عليه التعب والإرهاق.
كان يبكي بحرقة تدمي الفؤاد، فكأنما تلك الدموع تنبع من روحه وليس من عينيه، وبينما نحيبه يقطع صمت القبور الرهيب ويشقُّ سكونه المهيب.
لم يشعر إلَّا بأيدٍ تمتد لتربت عليه بحنو، ليسمع أحدهم يقول بصوتٍ هادئ رزين:
- كل شيء إلى زوال إلا خالق هذا الكون.
نظر مليًّا ليجد كهلًا تجاوز عِقده السابع بسنوات، كان رجلًا مهيب الطلعة طيب الملامح ذا لحية بيضاء تعطيه الكثير من الوقار والمهابة.
للحظات سرَت القشعريرة بجسده متسائلًا بينه ونفسه إن كان هذا الرجل من الإنس أو الجان؟
لم يمهله الرجل الكثير من الوقت قبل أن يتقدَّم نحوه مباشرةً وهو يتوكَّأ على عصاه موجِّهًا حديثه إليه وهو يقول بصوتٍ عطوف ورزين:
- هل تعرفه؟
حاول جاهدًا استعادة رباطة جأشه وهو يجيبه متلعثمًا: مَن تقصد؟
الشيخ: هل تعرف صاحب هذا القبر الذي تبكي أمامه بحرقة؟
الرجل وهو يجاهد لمنع دموعه بكلتا يديه: وهل أعرف سواه؟
الشيخ: هل هو مَن أهلك؟ ربما أمك أو زوجتك أو أبيك؟
أومأ برأسه يُمنةً ويُسرى علامةً على نفي ذلك، بينما ما زالت أنفاسه متحشرجة.
كرر الشيخ سؤاله: هل هو أحد إخوتك أو ربما أحد أقاربك؟
الرجل: لا هذا ولا ذاك.
الشيخ: إذًا فهو صديق مُقرَّب لك أو أحد جيرانك.
الرجل: ولا هذا يا شيخ.
الشيخ وقد ازدادت دهشته وحيرته إن لم يكن أحد من دمك أو صديق لك فمَن يكون ذلك الذي تبكيه بهذه الحرقة؟!
الرجل شارد الذهن وكأنه بعالم آخر: أنا.
الشيخ وقد اعتدل في جلسته بعد أن استحوذت كلمات الرجل على كامل انتباهه:
- كيف تقول هذا يا ولدي؟ وها أنت أمامي حيٌّ تُرزَق؟
أردف قائلًا بضيق: أم أنك تستخف بي؟
الرجل وما زالت الدموع تنساب من عينيه: حاشا لله أن أسخر منك أو أستخف بك.
ليستطرد بحزن: والله ما أخبرتك بذلك إلا صادقًا، فأنا صاحب هذا القبر، وهذا هو اسمي على شاهد القبر إن كنت لا تُصدِّقني.
أردف قائلًا بنبرة حزينة: سأروي لك كل شيء، ربما أجد لديك بعض الإجابات عن أسئلتي الحائرة، والتي تكاد تقتلني بعد موتي.
الشيخ بنبرة هادئة: حسنًا يا ولدي، كلي آذان صاغية؛ فهات ما لديك.
الرجل وقد استند على شاهد القبر، وهو يحاول العودة بذاكرته للوراء وإيجاد نقطة يبدأ منها قصته الغريبة.. تنهَّد بعُمق قبل أن يقول بحزن وأسى:
- حالي كحال الجميع من أبناء جيلي؛ فقد خرجت للحياة بلا حول مني ولا قوة، وما كدت أسير على الأرض حتى وجدت نفسي معها بمعركة طاحنة وغير متكافئة، وكأنني دخلت طاحونةً تطحن عظامي بقسوة وغل، جاهدت كثيرًا لأصبح إنسانًا ذا شأن مع قلة الإمكانيات وعدم توفُّر الفُرص المتاحة أمامي، ولكنني استطعت بالكثير من الصبر والجُهد وفضلٍ من الله أن أقف على أقدامي وأؤسِّس بيتًا للزواج يفي بالغرض.
تنهَّد بعُمق وهو يقول بحزن: جاهدت لأوفِّر حياةً كريمةً لي ولأسرتي خاصةً بعد أن منَّ الله عليَّ ورزقني بالأبناء.
استرسل قائلًا: ولكن مع كثرة الأبناء وقلة الرزق وضعف الموارد كنت مضطرًّا للاستدانة كثيرًا ممَّن حولي، ومع كثرة ديوني ازدادت مطالبات الدائنين لي بردِّ أموالهم.
صمت والدموع تلمع بعينيه:
- حاولت كثيرًا أن أُسدِّد ديوني، فأنا أمتلك من عزة النفس ما يقتلني كل يوم آلاف المرات؛ هربًا من نظرات الناس، ولكن كيف ومطالب البيت والأبناء تزداد وراتبي لا يكفي؟
الشيخ وكأنه يعلن عن وجوده:
- نعم يا ولدي، ولكن فرج الله قريب وهو كفيل برزقك.
الرجل مُستطردًا بحزن:
- كنت مضطرًّا للخروج من منزلي متنكرًا؛ فأنا أجيد التنكُّر بأكثر من هيئة، وكان لمنزلي باب خلفي لا يعرفه أحد غيري، فكنت أقضي حاجياتي بالخروج منه؛ هربًا من انتظار الدائنين لي أمام منزلي.
تنهد الشيخ بعمق قائلًا:
- عفا الله عنك يا ولدي، فلتكمل حديثك.
- ذات يوم تنكَّرت بهيئة شيخ كبير بلحية، وخرجت من الباب الخلفي للبحث عن عمل إضافي بالمدينة يُمكِّنني من سداد ديوني، ويعينني على مصاعب الحياة وقسوتها.
خرجت وبحافظة نقودي جنيهات قليلة وأوراقي الخاصة.
استقللت الحافلة للذهاب إلى المدينة، وعقب نزولي منه بحثت بجيوبي عن حافظة نقودي فلم أجدها، وعلى ما يبدو أنَّ أحد اللصوص قد سرقها مستغلًّا ازدحام الحافلة.
ابتسمت بسخرية محاولًا أن أهوِّن على نفسي ما أشعر به من استياء قائلًا بحُنق وتهكُّم:
- لن يجد فيها ما يستحق المحاولة، وربما يعيدها لي بعد أن يضع فيها قليلًا من المال مع اعتذار.
الشيخ وقد استحوذ عليه حديث الرجل:
- وبعدُ ماذا حدث؟
الرجل بابتسامة باهتة:
- ما حدث بعد ذلك يفوق الخيال غرابةً بكل ما تحمله الكلمة من معنى؛ فلقد أدركت وقتها أنني في ورطة، ولكن ما أحزنني حقًّا هو أنني سأكون مضطرًّا لاستخراج هذه الأوراق مرة أخرى وإنفاق مال أنا بأمسِّ الحاجة إليه.
الشيخ: ولكن يا ولدي ما ذكرته للتو نمر به جميعًا، ولا شيء يدوم؛ فالله يُغيِّر من حالٍ إلى حال، ومع كل عُسرٍ يُسرين، هذا وعد الله للصابرين والمتوكلين عليه.
الرجل: أعلم ذلك، ولم أفقد أبدًا إيماني بالله وثقتي به.
الشيخ: حسنًا يا ولدي، فلتكمل حديثك، فكلي شوق لأعلم كيف دخلت القبر؟ وكيف تجلس بجوار قبرك تبكي نفسك؟!
ابتسم الرجل بمرارة وهو يقول بوجع: وربما أبكي حالي وما وصلنا له بزماننا.
استطرد بأسى قائلًا: مضى يومي بالمدينة وأنا هائم على وجهي أبحث عن عمل لي دون فائدة، ومع سرقة نقودي مرَّ يومي دون أي طعام أو شراب، وكنت مُضطرًّا للعودة على أقدامي، فعدت إلى قريتي قُرب صلاة العشاء، وكنت ما زلت بملابسي التنكُّرية، فذهبت للصلاة والدعاء لله أن يفكَّ كربي وضيقي.
نظر نحوه مليًّا وعلى شفتيه ابتسامة ساخرة وهو يقول: وهناك وجدتهم يصلون صلاة الجنازة، فشاركتهم الصلاة متسائلًا بيني ونفسي عن شخصية الميت، ومَن يكون من أهل القرية؟
وعندما سارت الجنازة وجدت ما جعل جسدي يرتعد وتسري القشعريرة بكامل أوصالي وجسدي، فأبنائي يسيرون بين المشيِّعين يبكون بحرقة وهم يرددون اسمي!
كذلك وجدت الجيران وبعض الأقارب يسيرون بالجنازة وهم متأثرون غاية التأثُّر!
الشيخ: ولكن كيف حدث ذلك؟ ومتى؟ وأين؟
الرجل: هذا ما أصابني بالذهول، وجعلني كمَن يعيش أسوأ كوابيسه!
أردف قائلًا: أثناء سيري بالجنازة سمعت من المشيِّعين بعض همسهم، وهنا عرفت كيف علِموا بموتي.
عندما لمح علامات الدهشة على وجه الشيخ أكمل حديثه قائلًا:
- لقد استدعت الشرطة أقاربي لأخذ جثتي من المشرحة، وهناك أخبروهم أنَّ الحافلة التي كنت أستقلها تعرَّضت لحادث ضخم أدى لاحتراقه، حتى إنَّ جميع الجثث قد تشوَّهت وتلاشت ملامح الوجوه، ولم يتعرَّفوا على الضحايا إلا من خلال هُوياتهم.
الشيخ: هل تقصد أنَّ...
الرجل بسخرية: نعم يا شيخ، كانت جثة اللص الذي سرق حافظتي، ولأنَّهم بالمشرحة قاموا بتجهيز الجُثث وغسلها فقد تم الدفن مُباشرةً.
الشيخ: ولكن يا ولدي ما علاقة هذا بتواجدك هنا والبكاء على شاهد القبر؟
لماذا لم تعلن عن نفسك وعن وجودك على قيد الحياة عند عودتك للقرية؟
لماذا سرت بالجنازة وشهدت الدفن صامتًا ولم تتحدث؟!
الرجل وقد عادت الدموع تنهمر من عينيه بغزارة: ما دفعني لذلك وما جعلني أتمنى لو أنني بدلًا من ذلك اللص داخل النعش هو ما شاهدته بعيني وسمعته بأذني بجنازتي، نعم، ما كنت لأفصح عن وجودي على قيد الحياة بعد كل ما سمعته.
الشيخ بتساؤل: وكيف ذلك يا ولدي؟ وما هو الذي شاهدته وسمعته ومنعك من إعلان وجودك على قيد الحياة وتوضيح الأمر لأهلك وأحبَّتك؟
ألم تشفق على حزن أولادك وألم زوجتك وجيرانك؟
الرجل بحزنٍ ووجع: لا تتعجَّل بالحُكم عليَّ يا شيخ حتى تعرف السبب، وبعدها لك أن تلومني كما تشاء.
أكمل حديثه قائلًا: عندما سرت بجنازتي رأيت كل ما حرمتني منه الحياة، وجدت ما افتقدته بحياتي ولم أحظَ به أبدًا، فقد رأيت الدائنين يسيرون بها وهم يترحَّمون عليَّ ويعلنون أنهم قد سامحوني بدَينهم، وأنهم سيقفون بجانب أولادي بعد موتي، بينما كانت ألسنتهم تطاردني قبل أعينهم وأنا على قيد الحياة،
بل لقد وجدت بين المشيِّعين بجنازتي أقارب لي لم يدخلوا منزلي ولا مرة، فكأنما لا توجد بيننا صلة رحم أو قرابة، وها هم الآن يسيرون بجنازتي وهم يعلنون ندمهم ويقولون إنهم سيهتمون بأولادي من بعدي.
ابتسم وهو يقول: حتى زوجتي والتي مع قسوة الحياة وسوء الظروف وما مررنا به من متاعب قد تناست ما كان بيننا من وُدٍّ وحُب، ولم أعد أسمع منها سوى تقصيري وإهمالي وعدم جديتي وقسوتي معها ومع الأبناء، فغاب الحُب وضاع التفاهم وسقط الاحترام حتى تحول ما بيننا إلى واجبٍ يؤديه كلٌّ منَّا وكأنه مُرغَم عليه، ولكنها الآن تذرف الدموع بحُب، وها هي بجنازتي ولأول مرة لا تذكر عيوبي وتُعدِّد مساوئي، فلم أعد ذلك المهمل القاسي، ولم أعد بنظرها مُقصِّرًا، بل إنها حتى تُعدِّد محاسني، وتعلن أمام الجميع أنني كنت سندها وحبيبها، وأنَّ حياتها من بعدي ستكون ليلًا طويلًا مظلمًا وحالك السواد.
استطرد يقول بحزنٍ وأسى: سمعت منها يا شيخ بعد موتي ما كنت أتمنى سماعه طوال حياتي، فربما كان ذلك كفيلًا بأن يصنع الفارق بحياتنا، حتى أبنائي يا شيخ -والذين ما زالوا أطفالًا- كم تمرَّدوا عليَّ ولم يستجيبوا لي وأنا أحثُّهم على الجدية والاهتمام وبذل الجهد؛ ليصبحوا رجالًا صالحين، فهم بعد الله السند والملاذ لي.
كانت كلماتي لهم دومًا تذهب أدراج الرياح، وكأنني عدو لهم ولست ذلك الأب الذي ما تمنى أحد أفضل منه سوى أولاده، أمَّا بجنازتي فقد وجدتهم يقفون على شاهد قبري يعاهدونني على التفوق والتميُّز، وأنهم سيصبحون كما حلُمت لهم دومًا، وأنهم سيكونون مصدر فخر لي وامتدادًا لاسمي من بعدي.. سمعت منهم بجنازتي ما تمنيت أن أسمع ولو قليل منه بحياتي.
ضحك فجأةً بسخرية مريرة ضحكةً تعكس ما يشعر به من أسى وهو يقول بتهكُّم:
- حتى الدولة والتي تخلت عن كل مسؤولياتها تجاه أبنائها بحياتهم سمعت أحد موظفيها بالشؤون الاجتماعية يقول إنهم سيصرفون لورثتي مصاريف الجنازة، كما أنهم سيصرفون لهم تعويضًا عن موتي، وكذلك معاشًا شهريًّا مدى الحياة.
التفت إلى الشيخ ليجد دموعه قد سالت على خديه محاولًا التماسك أمام دموع الرجل الذي صرخ قائلًا في حزن: لماذا لماذا؟
لماذا يا شيخ لم أشعر طوال حياتي بكل هذا الحُب؟
لماذا لم أجد الاهتمام والتقدير من الجميع طوال حياتي؟
لماذا تنكر لي الجميع وأنا على قيد الحياة؟
لماذا لم أشعر بالحُب والتقدير إلا عند موتي وبجوار شاهد قبري؟
الشيخ بتأثُّرٍ بالغ: نعم يا ولدي، معك حق في ذلك، وإن كنا جميعًا نعاني من هذا، فكم جرحنا أحبةً لنا! وكم تسبَّبنا بألم للقريبين منَّا، بل كم آذيناهم بقصد أو بدون قصد.
أردف قائلًا: نعيش حياتنا وسط أحبة لنا، فلا ننال منهم سوى الألم ولا نحصد إلا الوجع إلا مَن رحم ربي.
وكذلك يا ولدي ستجد الكثيرين بيننا لم ينالوا بحياتهم سوى التجاهل، ولا يتذكَّرهم أحد أو يعرف قيمتهم إلا بعد أن يغادروا الحياة، حتى إنَّ هناك مبدعون وعلماء لا نعرف عنهم أو يتم تكريمهم إلا بعد موتهم.
الرجل: ولكن لماذا لماذا؟
الشيخ بصوت رزين: ربما لأننا لا نعرف قيمة ما نملكه إلا حينما نفقده يا بُني، تمامًا كالصحة لا نفتقدها إلا حينما يحِلُّ المرض.
توقَّف الشيخ فجأةً عن الحديث ليتوجه له متسائلًا:
- ولكن متى ستعود لتعلن عن وجودك وعودتك للحياة؟
الرجل بتهكُّم وسخرية: أعود؟ ولماذا أعود؟ بالله عليك أخبرني لمَ قد أعود وكل شيء بدوني يبدو أفضل؟!
بيتي سيكون أفضل،
أبنائي سيكونون أفضل،
أقاربي جيراني أصدقائي لن يفتقدني أحد، فلماذا قد أعود؟
الشيخ وهو يستند على عصاه واقفًا: سُبحان مَن يرث الأرض ومَن عليها!
قال هذا وهو يغادر مُردِّدًا: سُبحان الله الواحد الأحد، سبحانه كل شيء عنده بقدَر.
قاطعه الرجل بتوسُّلٍ ورجاء، وكأنه يستدجيه بالسؤال وهو يُردِّد في حزن:
- هل أعود؟ أخبرني يا شيخ هل أعود؟ هل أعود؟
***
15/9/2023