هل هي زيارتك الأولي ؟دليل الزيارة الأولي

آخر الموثقات

  • المتحدثون عن الله ورسوله
  • قصة قصيرة/.المنتظر
  • قصتان قصيرتان جدا 
  • سأغير العالم
  • كيف تعلم أنك وقعت في الحب؟
  • التأجيل والتسويف
  • فأنا لا انسى
  • احترام التخصص
  • 2- البداية المتأخرة لرعاية الفنون والآداب
  • يعني إيه "الاحتواء"؟
  • يا عابرة..
  • رسائل خلف السحاب
  • صادقوا الرومانسيين
  • ربي عيالك ١٠
  • من بعدك، كلامي بقى شخابيط
  • إيران من الداخل بعد الحرب.. 
  • معضلة فهم الحرب على إيران
  • نصر سياسي ايراني
  • قصة قصيرة/ وصاية الظل
  • ق ق ج/ سرُّ الشجرة والقوس
  1. الرئيسية
  2. مركز التـدوين و التوثيـق ✔
  3. المدونات الموثقة
  4. مدونة ايمن موسى
  5. عربة القطار

كانت الساعة تشير إلى السابعة صباحًا عندما نظرت لساعتها للمرة العاشرة على التوالي خلال دقائق معدودة؛ لتتأكد من أنها لم ولن تتأخر عن موعدها المحدد مسبقًا.

للمرة العاشرة أيضًا تأكدت من هندامها وملابسها بنظرة أخيرة بتلك المرآة، والتي وضعتها خصيصًا بالردهة المؤدية إلى الباب الخارجي، وهي تغادر شقتها مهرولة نحو المصعد.

ضغطت للنزول إلى الأسفل.

أخرجت راندا مفاتيح سيارتها وضغطت زر التشغيل عن بعد لتوفر بعض الوقت.

ضغطت مرة تلو الأخرى دون جدوى ودون أن تسمع صوت المحرك.. توجهت إلى السيارة مباشرة ودلفت بداخلها، وأدارت المفتاح، ولكن أبى المحرك أن يصدر صوته المحبب إلى أذنيها.

نظرت إلى ساعتها مرة أخرى، وهي تشعر بالإحباط خوفًا من تأخرها عن تلك الندوة، والتي ستحاضر بها أستاذةً لمادة علم النفس وأكاديمية بعلم الاجتماع، ومؤلفة ذائعة الصيت بمجال التنمية البشرية.

كانت محاضرتها اليوم بالندوة المقامة بأحد الفنادق الفاخرة عن التواصل الإنساني وبناء العلاقات الناجحة بمحيط الأسرة والعمل.. حاولت لعدة مرات إدارة المحرك دون جدوى مما كاد يصيبها بالغيظ والإحباط.

نزلت من السيارة وهي تشعر بالحيرة والتوتر، قبل أن يأتيها صوت القطار ليذكرها بقربها من محطة القطار.. لم تستغرق أكثر من ثوانٍ معدودة في التفكير قبل أن تقنع نفسها أن القطار هو الوسيلة الأسرع لبلوغ تلك البلدة بطريق الإسكندرية والوصول بالوقت المناسب لبدء الفعالية المشاركة بها.

وما هي إلا دقائق حتى وجدت نفسها بمحطة القطار والتذكرة بين يديها بانتظار القطار، والذي سيأتي خلال دقائق كما أخبرها موظف التذاكر.

تنهدت بارتياح عندما سمعت صافرة القطار لتنبئ عن حضوره بموعده المحدد على غير عادة مواعيد القطار، والتي تتأخر بالساعات في بعض الأحيان.

صعدت راندا لعربة القطار وهي تمعن النظر بها، فهي لم تعتد على استخدام القطار في تنقلاتها منذ شراء سيارتها.. كانت العربة شبه فارغة بل هي فارغة بالفعل بهذا التوقيت المبكر من الصباح.

توجهت للمقعد المفرد والذي يحمل رقم (13)، والقريب من باب القطار، حتى تكون بمفردها وتجنبًا للمتطفلين ومن يفضلون قتل الملل بالحديث مع رفاق السفر.

أخرجت كتابها الصادر حديثًا والذي ألفته ونشرته عن التواصل والتفاعل بين الفرد وأسرته ومحيطه، أرادت مراجعة القسم الخاص عن التفكك الأسري وانهيار بعض العلاقات الأزلية حتى علاقة الإنسان بوالديه.. وما إن بدأت بالقراءة حتى شعرت باصطدام قدمها اليسرى أثناء تحريكها بشيء لم تدرك للوهلة الأولى ماهيته.

ترددت قليلًا قبل أن تحسم الأمر وتنحني لتلقي نظرة خاطفة أسفل المقعد، ولدهشتها رأت حقيبة يد نسائية بنية اللون مصنوعة من الجلد.. نظرت من حولها مرة أخرى لتتأكد من خلو العربة من الركاب، فربما تكون لإحدى السيدات وستعود لاحقًا للحصول عليها، وبعد أن تيقنت أنها الوحيدة بعربة القطار مدت يدها لتتناولها، وما إن أصبحت بين يديها حتى أصابتها الرهبة، وقشعريرة سرت بجسدها لم تدرك كنهها.

ترددت قليلًا في فتح الحقيبة ورؤية ما بداخلها، وبين تسليمها بمكتب الأمن بالمحطة.. بعد تفكير قررت فتحها لتعلم إن كان بها ما يستحق عناء الاهتمام من عدمه.

فتحت السحاب الخارجي للحقيبة، فوجدت كيسًا به بعض الأدوية، ومبلغًا بسيطًا من المال، وسلسلة ذهبية بها صورة لسيدة تبدو وكأنها بالعقد السادس من عمرها.. وبداخل أحد جيوب الحقيبة الجانبية وجدت رسالة مغلقة عليها اسم وعنوان.

هنا قررت راندا أن تسلمها بمكتب الأمن بالمحطة للبحث عن صاحبتها وإيصالها لها.

مر الوقت بطيئًا حتى توقف القطار بمحطة وصولها، وما إن هبطت من القطار حتى توجهت لمكتب ناظر المحطة تسأله عن كيفية التعامل مع الأمر، والذي أخبرها بأنهم ليسوا معنيين بذلك، فإما تكمل إلى الإسكندرية وتسلمها هناك أو تعود إلى القاهرة وتسلمها بمحطة الأمن.

لم تود الجدال كثيرًا في ذلك خوفًا من تأخرها عن ندوتها.. استقلت تاكسي وطلبت منه إيصالها بسرعة لذلك الفندق، والذي تقام به الندوة.

وما إن وصلت حتى تم استقبالها واصطحابها مباشرة لتعتلي المنصة لتلقي محاضرتها في وجود جمع غفير من المدعوين والأكاديميين ومصوري البرامج والصحف.

أثناء حديثها وفي غمرة حماسها وانفعالها، لمحت سيدة تنزوي وحيدة بركن منزوٍ بآخر القاعة.. للحظات عاودتها تلك القشعريرة وهي تحاول التذكر أين ومتى شاهدت تلك المرأة.

كانت نظرات المرأة مسلطة عليها وكأنها غير معنية بسواها.. كلما نظرت راندا نحو المرأة المجهولة شعرت بهاجس غريب ينتابها ويصيبها بالقلق والتوتر.. نفضت عنها ذلك الخاطر وأشاحت ببصرها بعيدًا، متحاشية النظر نحو تلك المرأة، حتى لا يتشتت ذهنها، ولكن ورغمًا عنها لم تستطع منع عينيها وذهنها من التعلق بتلك السيدة، والتي كانت تبادلها التحديق وكأنها لا ترى سواها.

انتهت الندوة بعد أن تلقت الدكتورة راندا الكثير من الأسئلة من خلال الحضور، أجابت عنها بسرعة واقتضاب، فما زال ذهنها مشغولًا بتلك المرأة الغريبة وما زالت عينيها مسلطتان عليها.

وما إن هبطت عن المنصة، وهي بطريقها للخروج حتى فوجئت باختفاء تلك السيدة أو ربما رحيلها.

غادرت بعد أن طلبت من منظمي الندوة تسجيلًا للندوة يتم إرساله على حاسوبها.. استقلت التاكسي وأخبرته بالتوجه إلى محطة القطار، وأثناء قطع السيارة للطريق تذكرت الحقيبة، فوضعت يدها بداخلها وتناولت السلسلة، وبالتركيز بالصورة المطبوعة عليها أدركت أنها تشبه تلك السيدة المجهولة بالقاعة إن لم تكن هي.

تناولت الرسالة، وقرأت العنوان المكتوب عليها بصوت مرتفع، وهي تسأل السائق إن كان يعرفه أم لا.. أجابها السائق بأن العنوان خلف محطة القطار بالشارع القديم.

هنا قررت راندا أن تقوم بإيصال الحقيبة بنفسها عوضًا عن الدخول بأي مهاترات جانبية مع أمن المحطة، أو ربما تشعر بالفضول لمعرفة سر تلك الحقيبة والسيدة بالصورة.

طلبت من السائق إيصالها وانتظارها لدقائق.. توقفت السيارة أمام بيت عتيق له حديقة صغيرة، بنهايتها باب حديدي يؤدي لمبنى من طابقين.

وهي بطريقها لعبور الممر الذي يقودها مباشرة إلى الباب الحديدي، عاودتها تلك القشعريرة مع رعشة بجسدها وبرودة احتلت كامل أوصالها، مع شعور بالجفاف لم تدرِ سببه.

ضغطت على الجرس الخارجي عدة مرات، ولا مجيب، وما إن همت بالطرق على الباب حتى وجدته مواربًا.. دفعت الباب بيدها برفق ولين، ودلفت بالداخل وهي تنادي دون مجيب.

بآخر الرواق رأت ضوءًا خافتًا يشبه ضوء الشموع، ينبعث من إحدى الغرف الجانبية، وصوت سعال متقطع يأتي من داخلها.

أخذت تردد بصوت مرتفع: "هل يوجد أحد هنا؟ هل هناك من يسمعني"؟

أصغت قليلًا عساها تسمع صوتًا يجيب عليها دون جدوى، فقط صدى صوتها هو ما كان يرتد لها ليلقي الخوف والوجل بقلبها.

حاولت أن تهدئ من روعها قليلًا واستدارت تنوي العودة من حيث أتت، لولا تلك الآهات المكتومة والتي تنامت لمسامعها.

أصغت قليلًا فتنامى إلى أذنيها صوت السعال، وقد ازدادت وتيرته، حتى أصبح وكأن هناك من يعاني أو يختنق.

تقدمت مسرعة صوب الغرفة، وما إن وصلت حتى دفعت الباب بخوف وقلق، وهي تتوجس خيفة، وما إن أصبحت بالداخل حتى وجدت سيدة مستلقية على الفراش وهي تسعل بشدة، بل تكاد تختنق وقد وضعت رأسها ووجهها بين كفيها.

كانت الغرفة شبه مظلمة إلا من تلك الشمعة الوحيدة بذلك الشمعدان النحاسي، وهي المصدر الوحيد للضوء.

شعرت بالرطوبة تحيط بها من كل جانب، ورائحة العطن تتسلل إلى أنفها لتزكمها بقوة.

كانت الغرفة باردة للغاية، كما لو أنها ثلاجة لحفظ الموتى.. كانت الستائر السوداء السميكة على النوافذ تحجب أي مصدر للشمس أو الضوء.

نظرت راندا للمرأة والتي ما زالت تسعل وتلهث وتتنفس بصعوبة بالغة، وكأنها تحتضر وتعالج سكرات الموت.. اقتربت منها وهي تبحث عن كوب الماء، وما إن وجدته حتى قدمته لها، وهي تقول لها: "رشفة من الماء ستساعدك".

نظرت لها المرأة بنظرات زائغة وشاردة دون أي حديث.. نظرات فارغة من الحياة كما لو أنها لا تراها أو تشعر بوجودها.

ما أثار دهشة راندا وخوفها أكثر أنها أيقنت أن تلك السيدة هي نفسها المتواجدة بالسلسلة، والأغرب من ذلك والأدهى أنها نفس المرأة التي كانت منزوية وتتابعها بالقاعة.

حاولت راندا قطع الصمت والحديث معها دون جدوى، أشارت إلى الحقيبة بتردد وخوف، وهي تقول: "هل تعود لك"؟ وعندما لم تجد إجابة من المرأة على سؤالها استطردت تقول بتوتر، وهي تحاول ابتلاع ريقها بصعوبة: "لقد وجدتها داخل عربة القطار وبها سلسلة ورسالة عليها هذا العنوان".

أدركت راندا أنه لا جدوى من الحديث معها أكثر من ذلك.. هنا لم تجد أمامها سوى المغادرة بعد أن وضعت الحقيبة بالقرب منها على حافة الفراش قبل أن تغادر متوجهة إلى الخارج.

وبينما خرجت من الغرفة وقطعت الرواق، إذ شعرت ببعض الراحة والهدوء النفسي.

غادرت من الباب الحديدي والذي يؤدي إلى الحديقة، وبينما وصلت إلى البوابة الخارجية، إذ وجدت من يدلف من البوابة الخارجية للمنزل، وهو ينظر إليها بدهشة وتعجب واستغراب، كانت نظراته مزيجًا من الشك والريبة.

تلعثمت بالحديث، وهي تسأل بتوتر عن التاكسي الذي ينتظرها أمام البوابة.

نظر الرجل إليها بتساؤل، وقد كان شابًّا ببداية العقد الرابع من عمره، وهو يقول: "عن أي سيارة تتحدثين؟ ولماذا أنتِ هنا؟ وكيف دخلتِ من الباب"؟

شعرت راندا بالخجل، وهي تنظر حولها بحثًا عن السيارة، ربما لتستشهد بالسائق وهي تقول: "لقد جئت لتوصيل أمانة لصاحبة المنزل، وقد أوصلتها بالداخل قالت هذا وهي تشير بإصبعها للخلف حيث الغرفة.

أثارت كلماتها فضول الشاب وريبته، فقطب ما بين حاجبيه متسائلًا بشك: "هل قلتِ صاحبة المنزل؟ وما تلك الأمانة؟ ومن أنتِ"؟

ازدادت نبضات قلبها خفقانًا، وهي تقول: "عفوًا فأنا لم أعرفك بنفسي"! استطردت تقول: "أنا الدكتورة راندا راشد أستاذة علم النفس بجامعة القاهرة، ولي مؤلفات بالتنمية البشرية".

مد الشاب يده مصافحًا وهو يقول: "المهندس شريف الحسيني صاحب شركة مقاولات".

استطرد يقول بتعجب: "ولكنك لم تخبريني ماذا قصدتي بتلك الأمانة، وبأنك جئتِ بها لصاحبة المنزل"؟ 

- "إنها حقيبة وجدتها بعربة القطار القادم من القاهرة إلى الإسكندرية، وبداخلها رسالة تحمل هذا العنوان".

- "أي حقيبة؟ وأين هي"؟

- "لقد أوصلتها للسيدة بالداخل"، أردفت قائلة: "ولكني أعتقد أنها مريضة وتحتاج للعرض على الطبيب، كذلك الغرفة تحتاج إلى التنظيف والتهوية والسماح للشمس بدخولها...".

شريف مقاطعًا وهو لا يكاد يصدق ما يسمعه: "عن أي سيدة وأي غرفة تتحدثين سيدتي"!

راندا بحرج: "ربما ليس لي التدخل بشؤونكم، ولكن حالة السيدة بالداخل صعبة للغاية".

شريف وهو يتنهد كمن فقد صبره: "من فضلك يا دكتورة، هلا نظرتي إلى هذا المنزل جيدًا، إنه خالٍ من البشر منذ شهور، ووالدتي تقيم عند أختي منذ رحيلنا عن البيت، ولا يوجد أحد بالداخل".

راندا وهي تحدق به بذهول: "هل تعتقد أنني أختلق ذلك، وأنني اقتحمت منزلك دون سبب"؟

شريف بشك: "لا تفسير لدي غير ذلك، وإلّا فأين هو السائق؟ وأين الحقيبة والسيدة"؟

راندا بانفعال وغضب: "لا أسمح لك بذلك، وإن كنت لا تصدقني فالحقيبة وضعتها بجوار المرأة على الفراش، ويمكنك التأكد من ذلك بنفسك".

تقدم شريف نحو الباب وهو يقول لها بشك تفضلي لنرى.

سار شريف أمامها، وهي من خلفه، تكاد تلعن حظها السيئ، والذي جعلها تصطدم بتلك الحقيبة بأسفل مقعدها بعربة القطار وتحضرها إلى هذا العنوان.

وصل شريف إلى الغرفة، وهو يشير إليها قائلًا بسخرية وتهكم: "هل قلتِ إنك كنتِ بداخل هذه الغرفة، والتقيتِ داخلها امرأة وسلمتيها حقيبة"؟

راندا بانفعال وغضب: "نعم.. نعم لقد أخبرتك أن..."! وقبل أن تكمل عبارتها نظرت بعينيها إلى حيث يشير شريف لترى بأم عينيها ما جعلها تصاب بالذهول، فقد كانت الغرفة والتي غادرتها منذ قليل مغلقة من الخارج، وعليها قفل صغير يعلوه التراب بكثافة. 

 فركت راندا عينيها وكأنها تحلم غير مصدقة لما تراه: "كيف لهذا أن يحدث"! تحدثت راندا بصوت منخفض خجول، وهي تنقل بصرها ما بين شريف والغرفة، وذلك القفل، والذي يعلوه الغبار والتراب الكثيف، وهي تهمهم قائلة: "أقسم أنني كنت بالداخل وهناك سيدة مريضة تسعل بشدة، بل وتكاد تختنق أنا لا أختلق هذا صدقني هذا ما حدث بالفعل".

شريف وهو يخرج سلسلة مفاتيح من داخل جيبه، ليفتح القفل وهو يرد بشك وريبة: "ربما سنرى"!

فتح القفل ودلف إلى الداخل وسط عاصفة من التراب والغبار، كان الظلام يلف الغرفة بأكملها.

كادت راندا تنهار وهي ترى تلك الغرفة المظلمة.. استدار شريف وأنار الكهرباء وهو يضغط على أنفه بشدة متحاشيًا هجمة الغبار الشرسة.

نظرت راندا من حولها وهي تقول: "نعم ها هو الشمعدان.. لقد رأيته وكانت به شمعة مشتعلة، وهذه الستائر السوداء كذلك…"! 

كانت تتحدث بانفعال وعجز ينبآن عن قلة حيلتها، فلم تنتبه لشريف والذي كان بكل حواسه وببصره يحدق بتلك الحقيبة الجلدية ذات اللون البني الموضوعة على طرف الفراش.

كانت تلك الحقيبة بالنسبة لراندا بمثابة طوق النجاة لها، والبرهان الوحيد على صدقها، فقالت وهي تتنهد: "ألم أخبرك بذلك! أنت لم تصدقني! ها هي الحقيبة وأنا وضعتها بيدي هنا ويمكنك التأكد من محتوياتها".

كان شريف صامتًا وهو يتأمل الحقيبة، والتي كانت القطعة الوحيدة بتلك الغرفة التي لا يعلوها أي ذرة غبار.

استطردت راندا تقول بدهشة وحيرة: "ولكن أين تلك المرأة؟ وأين ذهبت؟ لقد كانت هنا! استدركت قائلة وكأنها تفكر بصوت مرتفع: "ربما تكون غادرت وأغلقت الباب من الخارج".

شريف –وما زال مشدوهًا وغير مستوعب لما يحدث–: "هل تصدقين أنتِ ذلك"؟ أردف قائلًا: "بحسب كلامك فنحن التقينا عقب مغادرتك للغرفة مباشرة، ووسط هذا التراب، والذي تمتلئ به الغرفة، كان يجب أن نرى آثار الخطوات". 

هزت راندا رأسها مؤيدة لقوله، وما زلت تفكر: كيف؟ ولِمَ حدث ذلك؟ ولولا تلك الحقيبة لإصابتها لوثة عقلية بلا شك. 

تناول شريف الحقيبة بيد مرتعشة، وهو يغادر الغرفة بصمت مشيرًا لراندا أن تتبعه 

وما إن أصبحا بالحديقة، حتى أحضر مقعدين من الخيزران، ومائدة يعلوها بعض الغبار، حاول تنظيفها قدر الإمكان قبل أن يدعوها للجلوس، وينظر إليها بتوسل وكأنه يرجوها قائلًا بصوت خفيض: "من فضلك أريد أن أفهم فقط! هلا أعدتي على مسامعي كل شيء منذ البداية وحتى الآن، ودون إغفال أي تفاصيل ولو بسيطة".

روت له راندا ما حدث لها منذ خروجها من بيتها مرورًا بعربة القطار وعثورها على الحقيبة، حتى توجهها لإلقاء محاضرتها ورؤية المرأة المجهولة والتي تشبه الصورة على السلسلة، وحضورها إلى المنزل ومشاهدة نفس المرأة، وهي تعاني على فراشها وصولًا لحضوره، أنهت حديثها بقولها: "والباقي أنت تعرفه فنحن عايشناه سويًّا".

تصبب العرق على وجه شريف، وهو يقول لها: "هلا وصفتِ لي تلك المرأة"!

بدأت راندا حديثها بالقول: "إنها بالعقد السادس من عمرها ذات بشرة بيضاء ترتدي..."، وقبل أن تستطرد حديثها عن وصف ملامح المرأة أشارت إلى الحقيبة بين يديه، وهي تقول: "صورتها بالسلسلة.. أعتقد أنه من الأفضل أن تراها بنفسك".

بيد مرتجفة فتح شريف الحقيبة، وتناول السلسلة ليقربها من عينيه وهو ينظر لراندا بتعجب قائلًا: "إنها أمي.. ولكن كيف! أكاد أجن ولا أجد تفسيرًا لكل ذلك، فأمي لم تستقل القطار يومًا، والسائق هو من يقوم بتنقلاتها".

راندا مقاطعة لتساؤلاته: "معذرة! ولكن أعتقد أنه يحق لي أن أفهم، خاصة وأنك منذ قليل كنت تتهمني وكأنني لصة أو…". 

قاطعها قائلًا بحزن وأسى: "أعتذر عن ذلك وسأخبرك".

تنهد قبل أن يعود بمقعده للخلف، وهو يشير إلى الصورة على السلسلة قائلًا: "إنها لأمي، وهي من قامت بتربيتنا أنا وأختي بعد اختفاء والدنا المفاجئ، وغيابه غير المبرر للجميع، فهو كان يحب أمي ويحبنا لأبعد الحدود".

تنهد وهو يقول: "تزوجت أنا وتزوجت أختي، وحدث بيننا خلاف بوجهات النظر على الميراث بسبب رغبة أختي بالاحتفاظ بهذا المنزل، مبررة ذلك باحتمالية عودة والدي يومًا ما، بينما أردت أنا هدمه وإقامة برج سكني فوق الأرض من خلال شركة المقاولات التي أديرها، كما أن والدتي رفضت ذلك وبإصرار غريب إلا بعد موتها".

راندا وكأنها تحثه على مواصلة الحديث: "وماذا بعد"؟

شريف: "سافرت منذ أيام مع زوجتي وأولادي إلى الغردقة، بينما رفضت أمي وقالت إنها ستتوجه للإقامة عند أختي".

- "وهل هي عـند أختك الآن"؟

- "بالأمس رأيت رؤية غريبة، كانت والدتي ووالدي هنا بالبيت يجلسان سويًّا، وهما يبتسمان لي ويخبرانني أنهما بانتظاري للاحتفال بعيد زواجهما الأربعين".. أكمل قائلًا: "حاولت الاتصال بأختي مرارًا للاطمئنان على والدتي، ولكن دون جدوى، وعندما فشلت في الاتصال والاطمئنان على أمي حضرت إلى هنا".

وما كاد ينتهي من عبارته حتى كانت هناك فتاة بالعقد الثالث من عمرها تدخل باندفاع، وهي تسأل: "أين أمي؟ أين هي"؟

شريف وهو يوجه كلماته للفتاة: "ماذا تقصدين بذلك؟ أليست عندك"؟

الفتاة وقد ازداد قلقها وتوترها: "لم تمكث عندي سوى يوم واحد، وباليوم التالي أخبرت الخادمة أن السائق ينتظرها بالأسفل، وأنها ستعود للإقامة لديك لأنك لم تذهب إلى الغردقة".

شريف: "هل تعنين أنك لا تعلمين عنها شيئًا منذ أسبوع"؟

وقفت راندا على استحياء وهي تستمع إلى حديثهما، لتنظر إليهما بحيرة متسائلة وكأنها توبخهما: "أنتما الاثنان لا تعلمان شيئًا عن والدتكما لمدة أسبوع! هل يعقل ذلك حقًّا"!

نظرت الفتاة إلى راندا قبل إن توجه نظراتها إلى أخيها وهي تسأل: "ومن تكون السيدة"؟ 

شريف وهو يأخذ نفسًا عميقًا، قبل أن يقوم بعملية التعارف بينهما، فقدم الدكتورة راندا للفتاة بينما عرف عن الفتاة بأنها أخته سلمى.

مرت لحظات التعارف سريعًا، وعاد السؤال يطرح نفسه من جديد: "ماذا يحدث؟ وأين ذهبت السيدة الكبيرة"؟

روى شريف لسلمى ما روته له راندا، وما حدث معهما وتلك الرؤية الغريبة التي رآها أثناء نومه، والتي أحضرته من الغردقة، وقبل أن يتم حديثه عن الرؤية أكملت أخته نفس الرؤية، وكأنهما تشاركا نفس الرؤية بنفس الوقت مما أصاب الجميع بالذهول.

سلمى بخوف وقلق: "يجب أن نبلغ الشرطة لتبحث عنها، فربما تعرضت أمي للاختطاف".

شريف وهو يفكر بصوت مرتفع: "هل يعقل أن تكون غادرت من عندك وفقدت ذاكرتها"!

راندا وهي تسعل، وكأنها تعلن عن وجودها قائلة بتردد: "ربما تكون الرسالة ذات أهمية، أو تجدان بداخلها ما يوضح هذا الأمر".

شريف وكأنه قد نسي أمر تلك الرسالة: "هذا حقيقي! رباه أين هي"؟

سلمى: "عن أي رسالة تتحدثان"؟

شريف: هذه الرسالة ستأخذنا لأمي أو ..."! شرد شريف قليلًا شاخصًا ببصره نحو المجهول مرددًا عبارته، وكأنه يحدث نفسه أو يفكر بصوت مرتفع: "هذه الرسالة إما أن تقودنا لأمي أو أنها ستكون مجرد بداية نحو المجهول".

أفاق من شروده وهو يتوجه لراندا قائلًا: "أين هي"؟

راندا وهي تشير لجيب الحقيبة الجانبي: "إنها هنا".

تناول شريف الرسالة بسرعة، وفضها ليقرأ ما بداخلها بصوت مرتفع، كانت الرسالة مقتضبة وكأنها كتبت على عجل، وجاء فيها: "ما دمتما تقرآن هذه الرسالة فقد وصلتما إلى نقطة النهاية.. بالغرفة المظلمة وخلف الستائر السوداء داخل الخزانة قوما بواجبكما النهائي نحوي وأبيكما.. ولا تنسيا أنتما إخوة تسري بشرايينكما نفس الدماء، تتشاركان نفس المصير، أنا أسامحكما بتقصيركما معي، ولكن لن أغفر لكما تقصيركما بحق أنفسكم كإخوة.

أحبكما وكفى".

وكانت الرسالة مذيلة بتوقيع الأم.

راندا بتساؤل: "هل المقصود بالغرفة المظلمة تلك الغرفة التي..."!

سلمى: "أتذكر أن والداتي وضعت بعض الستائر السوداء بالخزانة منذ اختفاء والدي، وكانت تمنعني من الدخول للغرفة أو العبث بمحتوياتها خاصة الخزانة.. وكلما دخلَتْ إلى الغرفة أغلقت عليها من الداخل، حتى إنها كانت تغيب بالساعات، وعندما أسألها ماذا تفعلين بالداخل كانت تتعلل بأنها نائمة أو تتهرب من الإجابة".

هنا نهض شريف وهو يقول لهما بجدية: "اتبعاني".

توجه الجميع إلى الغرفة، ومنها إلى الخزانة مباشرة، وبينما أزاحوا الستائر السوداء إذ برز لهم باب صغير وسط الجدار تمامًا، له مقبض حديدي، ما إن أداره شريف حتى فتح الباب ليجد أمامه درجًا خشبيًّا يفضي إلى سرداب أرضي.

نزل شريف بحذر تتبعه سلمى ومـن خلفها راندا.. أشعل شريف الضوء ليتفقد الجميع المكان.. كان بهوًا واسعًا مجهزًا للمعيشة، به ثلاجة وتلفاز ومكتبة ونعشين أحدهما مغلق والآخر مفتوح وفارغ.

وقبل أن يكملوا التجول بأبصارهم، كانت سلمى شبه منهارة تبكي وتنتحب بجوار جسد والدتها المسجى على الفراش.. كان يبدو أن الوفاة حديثة لم يمر عليها سوى يوم واحد أو ربما أقل من يوم. 

كانت تحمل بين أصابعها ورقة صغيرة، مكتوبًا فيها بيد مرتعشة وبخط مهتز. 

"عندما تقرآن كلماتي هذه، فهذا معناه أنني ميتة.. وقد آن الأوان لأكشف لكما ما أخفيناه عنكما وظل سرًّا حفظته بقلبي وروحي كل هذه السنوات.

أريدكما أن تعلما أن والدكما لم يهرب ولم يختفِ، ولكن وحتى يحميكما وحفاظًا على أرواحكما كان يجب أن يتوارى عن الأنظار.. ستجدان بدرج المكتب الخاص بوالدكما ملفًّا كتب عليه (سريٌّ جدًّا) وهو خلاصة علم وفكر والدكما وطوق النجاة لكما وللوطن بل وللأمة كلها من الهيمنة الصهيونية.

من أحضر الأمانة وحافظ عليها وقادكما إلى هنا سيكون أمينًا على أمل الأجيال القادمة.

ربما لا يجب أن تعلما أكثر من ذلك، حتى لا تتعرض حياتكما وحياة من تحبان للخطر.

قوما بواجبكما الأخير نحونا.

بالنهاية وددت كثيرًا أن أقبلكما وأن أشكر تلك الفتاة صاحبة الروح الشفافة والتي أحضرت لكما الحقيبة من عربة القطار".

*******

بعد ثلاث سنوات وبإحدى الليالي القمرية وبعربة القطار شبه الفارغة اصطدمت قدم الدكتورة راندا بجسم صلب أسفل مقعدها الفردي بجوار باب القطار، وقبل أن تنحني لترى ما هو وجدت من يوقظها من نومها، وهو يعتذر ليسألها عن التذكرة، فركت عينيها لتطرد ذلك النعاس، والذي جعلها تشعر بالخدر يسري بكامل جسدها.

فتحت حقيبتها لتخرج التذكرة أثناء ذلك اصطدمت يدها بملف كبير من الورق كُتب عليه باللون الأحمر (سريٌّ جدًّا) وقبل أن تفيق من صدمتها وذهولها شعرت بضربة قوية على رأسها ليعم الظلام داخل عربة القطار، وكان آخر ما رأته ذلك الرجل ذا الملامح الأجنبية، وهو يتقدم نحوها يحمل بين يديه ميدالية فضية على هيئة نجمة سداسية.. لتفقد وعيها وسط هدير القطار الصاخب وملامح المرأة المجهولة تلوح لها من بعيد، وكأنها تراقبها أو ربما لتحميها.

نظرت إليها راندا بتوسل لتنهض المرأة وتتوجه نحوها مباشرة؛ حيث ما زالت تجلس بمقعدها داخل عربة القطار.

تمت.

إحصائيات متنوعة مركز التدوين و التوثيق

المدونات العشر الأولى طبقا لنقاط تقييم الأدآء 

(طبقا لآخر تحديث تم الجمعة الماضية) 

الترتيبالتغيرالكاتبالمدونة
1↓الكاتبمدونة نهلة حمودة
2↓الكاتبمدونة محمد عبد الوهاب
3↑1الكاتبمدونة محمد شحاتة
4↓-1الكاتبمدونة اشرف الكرم
5↓الكاتبمدونة ياسمين رحمي
6↓الكاتبمدونة حاتم سلامة
7↓الكاتبمدونة حنان صلاح الدين
8↑1الكاتبمدونة آيه الغمري
9↑1الكاتبمدونة حسن غريب
10↓-2الكاتبمدونة ياسر سلمي
 spacetaor

اگثر عشر مدونات تقدما في الترتيب 

(طبقا لآخر تحديث تم الجمعة الماضية)

#الصعودالكاتبالمدونةالترتيب
1↑31الكاتبمدونة فاطمة الزهراء بناني203
2↑22الكاتبمدونة مها اسماعيل 173
3↑14الكاتبمدونة مرتضى اسماعيل (دقاش)205
4↑11الكاتبمدونة منال الشرقاوي193
5↑5الكاتبمدونة كريمان سالم66
6↑5الكاتبمدونة خالد عويس187
7↑4الكاتبمدونة نجلاء لطفي 43
8↑4الكاتبمدونة غازي جابر48
9↑4الكاتبمدونة سحر حسب الله51
10↑4الكاتبمدونة نهلة احمد حسن97
 spacetaor

أكثر عشر مدونات تدوينا

#الكاتبالمدونةالتدوينات
1الكاتبمدونة نهلة حمودة1079
2الكاتبمدونة طلبة رضوان769
3الكاتبمدونة محمد عبد الوهاب695
4الكاتبمدونة ياسر سلمي655
5الكاتبمدونة اشرف الكرم576
6الكاتبمدونة مريم توركان573
7الكاتبمدونة آيه الغمري501
8الكاتبمدونة فاطمة البسريني426
9الكاتبمدونة حنان صلاح الدين417
10الكاتبمدونة شادي الربابعة404

spacetaor

أكثر عشر مدونات قراءة

#الكاتبالمدونةالمشاهدات
1الكاتبمدونة محمد عبد الوهاب334086
2الكاتبمدونة نهلة حمودة190095
3الكاتبمدونة ياسر سلمي181604
4الكاتبمدونة زينب حمدي169790
5الكاتبمدونة اشرف الكرم130985
6الكاتبمدونة مني امين116792
7الكاتبمدونة سمير حماد 107888
8الكاتبمدونة فيروز القطلبي97967
9الكاتبمدونة مني العقدة95056
10الكاتبمدونة حنان صلاح الدين91852

spacetaor

أحدث عشر مدونات إنضماما للمنصة 

#الكاتبالمدونةتاريخ الإنضمام
1الكاتبمدونة نجلاء البحيري2025-07-01
2الكاتبمدونة رهام معلا2025-06-29
3الكاتبمدونة حسين درمشاكي2025-06-28
4الكاتبمدونة طه عبد الوهاب2025-06-27
5الكاتبمدونة امل محمود2025-06-22
6الكاتبمدونة شرف الدين محمد 2025-06-21
7الكاتبمدونة اسماعيل محسن2025-06-18
8الكاتبمدونة فاطمة الزهراء بناني2025-06-17
9الكاتبمدونة عبد الكريم موسى2025-06-15
10الكاتبمدونة عزة الأمير2025-06-14

المتواجدون حالياً

773 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع