هناك حكمةٌ بليغةٌ تقول: "عندما وُزِّعت العقولُ رضي كلُّ إنسانٍ بعقله، وعندما وُزِّعت الأرزاقُ لم يرضَ أحد."
وفي هذه المفارقةِ بالذات تكمنُ بدايةُ الحكاية؛ فالبشرُ ليسوا سواءً، ولن يكونوا يومًا كذلك؛ تختلفُ عقولُهم كما تختلفُ بصماتُهم، وتتباينُ طبائعُهم كما تتباينُ خطوطُ أقدارِهم.
فثمّةَ شخصٌ عصبيٌّ لا يبدأُ أيَّ نقاشٍ إلّا ويحوِّله إلى معركةٍ حاميةِ الوطيس، يعلو فيها صوتُه أكثر ممّا تعلو حجّتُه، وكأنَّ الصراخَ دليلُ قوّةٍ، مع أنّه في الحقيقةِ اعترافٌ غيرُ مباشرٍ بالضعفِ والفراغ.
وهناك آخرُ يُجيدُ دَسَّ السّمِّ في العسل، ما إن يبدأُ الحوارَ حتّى يلوِيَ الحقائقَ، يقلبَ الأبيضَ أسودَ، ويجعلَ الباطلَ يبدو حقًّا. لا يبحثُ عن الحقيقةِ بل عن الانتصار، ولا يهمّه الصوابُ بقدرِ ما يهمّه أن يخرجَ من الجدالِ رافعًا رأسَه، ولو هوى بالحقيقةِ إلى الحضيض.
وثمّةَ مَن يحملُ الحقَّ بين يديهِ ولكنّه لا يجيدُ التعبيرَ عنه؛ فإذا دخلَ سجالًا تعثّرت كلماتُه، وتقطّعت أنفاسُه، وخرج مهزومًا رغم أنّه كان الأقربَ إلى الصواب.
وآخرُ حكيمٌ عقلانيٌّ، يملكُ الرأيَ الرشيد، لكنّه لا يستطيعُ فرضَ منطقِه لأنّه يفتقدُ الهيبةَ التي تمنحُ الكلامَ قوّةً وهيبةً.
ولا يخلو المشهدُ من الهادئِ الرزين، والعشوائيِّ المتهوِّر، والعاقلِ المتأمِّل، والمجنونِ الأحمق، وسائرِ الأصنافِ التي تملأُ طرقاتِ الحياةِ من حولِنا.
لقد تكفّل علمُ النفسِ بوضعِ مسمّياتٍ لكلّ نموذج: هذا نرجسيٌّ، ذاك ساديٌّ، وآخرُ سيكوباتيٌّ، ورابعٌ يعاني انفصامًا أو تشتّتًا أو اضطرابًا… قائمةٌ لا تنتهي ولا يكاد يخلو واقعُنا من أحدِ شخوصِها.
هذا هو عالمُنا… عالمٌ إن لم نفهمْه انتهى بنا الأمرُ كفرائسَ وضحايا، وإن لم نقرأْ نفوسَ البشرِ جيّدًا ضللْنا الطريق، عالمٌ ممتلئٌ بل ومزدحمٌ بالعاهاتِ والمرضى النفسيّين.
ومهما تنوّعت مشكلاتُنا، ماديّةً كانت، أو أسريّة، أو عاطفيّة، أو مهنيّة، سنجدُ دائمًا أنّ هناك نماذجَ من هؤلاء تقتحمُ المشهد، إمّا لتقدّمَ الحلَّ، أو لتعقّدَ الأزمةَ، أو لتزيدَ الجرحَ اتّساعًا.
بل إنّ بعضَ المشكلاتِ قد تُحلُّ بسهولةٍ لو كان مَن نتعاملُ معهم أسوياء، بينما تتحوّلُ أخرى إلى معاركَ ممتدّةٍ لأنّ طرفًا واحدًا فقط يرفضُ الإنصاتَ أو لا يعرفُ سوى لغةِ القوّةِ أو الاحتيالِ أو القهر.
أمّا أنا…
فقد تعلّمتُ عبر تجاربي أنّني قد أُسامحُ مَن يحاولُ أن يَلويَ ذراعي، لأنّ الحياةَ تُدار أحيانًا بالمساومة.
لكنّني لا أستطيعُ، ولن أستطيعَ، أن أُسامحَ مَن يحاولُ كسرَ ذراعي، حتّى ولو كان منّي.
فالذراعُ الملتويةُ يمكن إصلاحُها… أمّا الكسرُ فهو يتركُ أثرًا لا يُمحى بسهولةٍ وقد لا يعودُ كما كان.
في النهاية، لستَ مسؤولًا عن طبائعِ الناس، لكنّك مسؤولٌ عن الطريقةِ التي تختارُ بها أن تتعاملَ معهم.
قد لا تستطيعُ تغييرَ العالم… ولكنّك تستطيعُ أن تغيّرَ زاويةَ وقوفِك فيه.
وتذكّر دائمًا أنّ أقوى الناسِ ليس مَن يربحُ كلَّ معركة، بل مَن يعرفُ أيَّ المعاركِ تستحقُّ أن يدخلَها.
فنحن لا نُهزمُ حين نخسرُ الآخرين… بل حين نخسرُ أنفسَنا في الطريقِ إليهم.
حين تدركُ ذلك جيّدًا، ستعرفُ أنّ الحكمةَ ليست في الهربِ من الناس، ولا في مجاملتِهم، بل في معرفةِ مَن تُصافح… ومَن تبتعدُ عنه… ومَن تتركُه خلفَك دون أسف.





































