ــــــــــــــــــــــــ
" ما ستقرأونه لاحِقًا هو نتاج تجربة شخصية وذاتية، رجاء الإصغاء بأرواحكم فأنتم في حضرةِ الموت، وإن للموت لرهبة، ولغفوته قدسية ومهابة لا يدركها إلا من عايشها"
في مثلِ هذا اليوم من العامِ الماضي، "السابعَ عشرَ من أكتوبر عامَ ٢٠٢٤"، وقُبيل آذان المغرب مُباشرة، توقَّف قلبي لنصفِ دقيقةٍ كاملة. نصفُ دقيقةٍ لا تُقاسُ بالزمن، بل بالحياةِ ذاتِها؛ نصفُ دقيقةٍ انطفأ فيها النورُ داخلي، وانسحبَ منها النفسُ كأنه لم يكن، وتوقّفَ معها كلُّ شيءٍ عدا القدَر.
نصفُ دقيقةٍ لم تُسجِّلها ذاكرتي، كأنَّها سقطت من عمرٍ مكتوبٍ بمدادِ الغيب. نصفُ دقيقةٍ لم أعِها، ولكنَّها حفرت في كياني أثرًا لا يُمحى.
في تلكَ اللحظة، تهاوى جسدي رغمًا عنّي، وتخاذلتْ قدماي، وانطفأتْ عيناي، وعمّ السكونُ أركانَ وجودي، كأنَّ الحياةَ انسحبت في خفاءٍ تاركةً الجسدَ خاوٍ من الروح. كانت النارُ تشتعلُ في صدري بينما البردُ يسري في أطرافي، وكان العرقُ يتصبّب من جبيني على وجهٍ فقد لونه، وارتعاشةٌ غريبةٌ تهزُّني من الأعماق. كنتُ أرى دون أن أُبصر، وأسمعُ دون أن أعي، أسيرُ على قدمين لا أشعرُ بالأرض تحتهما.
كيف استطعتُ قطعَ عشراتِ الأمتار؟ وكيف صعدتُ ثلاثَ طوابقَ وأنا بينَ الموتِ والحياة؟ لا أعلم. كلُّ ما أدركُه أنني كنتُ أقاومُ شيئًا أعظمَ من جسدي، وأقوى من إرادتي، وأنني حين بلغتُ البابَ الأخيرَ انهارتْ مقاومتي، وسقطتُ سقوطًا عنيفًا ارتطمتُ فيه بدرجٍ حديديٍّ ترك أثره على كتفي وظهري أسابيعَ طويلة.
ثم كانت النصفُ دقيقة — تلك التي توقّف فيها قلبي — غيابًا تامًّا عن هذا العالم. وحينَ عدتُ إلى الوعي، كانت العيونُ تحدّقُ بي في رعبٍ، والأيدي ترتجفُ حولي، ولم أكن أعلمُ أنني قد غادرتُ الحياةَ للحظةٍ وعدتُ منها. عادَ النبضُ بإذنِ الله، وعادت الحياةُ تتسلّل إلى عروقي، لأُجرِي بعدها عمليةً جراحيةً تُركِّيبُ دعامةً في قلبي تعينه على النبض في سلام وتذكِّرني كلَّ يومٍ أنَّ الموتَ كان قابَ قوسين أو أدنى، وأنَّ النجاةَ نعمةٌ لا تُقاس.
منذُ ذلك اليوم، تغيّر كلُّ شيء. ما قبلَ نصفِ الدقيقةِ ليس كما بعدها. أنا لستُ أنا. تبدّلت نظرتي للحياة، تغيّر قلبي قبل أن يُداوَى، وأصبحَ أكثرَ رقّةً واتزانًا. لم أعد أركضُ خلفَ ما لا يستحق، ولم أعد أُجيدُ الغضبَ على توافهِ الأمور. صرتُ أرى في كلِّ صباحٍ حياةً جديدةً تُهدَى لي من السماء، وأتذوّقُ المعنى الحقيقيّ لكلمة "النجاة".
ومنذ تلك اللحظة، أحاولُ جاهدًا أن أتجاهلَ ما يُدخِلُ الحزنَ إلى قلبي، أتغافلُ وأترفّعُ عن صغائرِ الأمور، وأمارسُ فنَّ التغابي أحيانًا؛ لا ضعفًا، بل رغبةً في تجنّب التصادمِ مع من حولي. كلُّ ما أتمناه أن أحيا في هدوءٍ وسلام، وأن يُعينني من حولي على ذلك، فالقلبُ الذي واجهَ الموتَ لم يَعُد يحتملُ ضجيجَ الحياةِ الفارغ.
لم أَعُد أبحثُ عن الكمالِ في أحدٍ، ولا أطالبُ الحياةَ بما لا تملك. كلُّ ما أريده الآن أن أعيشَ بصدق، وأتركَ أثرًا طيبًا قبلَ أن تُغلقَ الستارةُ من جديد.
لقد أصبحتُ نسخةً مختلفةً تمامًا عن نفسي القديمة؛ نسخةٌ تشكَّلت من رمادِ التجربة ووهجِ النجاة. تلك النصفُ دقيقة هي الفاصلُ بيني وبين ما كنتُ عليه، غير أنني لا أستطيعُ الجزمَ إن كانت هذه النسخةُ أفضل أم أسوأ — فذلك ما ستُجيبُ عنه الأيامُ القادمة.
كانت نصفُ دقيقةٍ من توقّفِ القلبِ كافيةً لتوقظَ فيَّ قلبًا آخرَ لا يموت، ولأفهمَ أنَّ الإنسانَ لا يُقاسُ بعددِ أنفاسه، بل بما يفعله حين يُمنح فرصةً ثانيةً للحياة.
تلك النصفُ دقيقة لم تذهب سُدى؛ كانت لحظةَ ميلادٍ من رحمِ الغياب. تذكرني دومًا وتلح علي إذا نسيت أو تناسيت أنني خرجتُ من قلبِ الموتِ حيًّا... لأشهد أنَّ المعجزةَ قد تكونُ مجرّد نصفِ دقيقةٍ، لكنَّ أثرَها يدومُ إلى الأبد.
ياسر محمود سلمي
د. محمد عبد الوهاب المتولي بدر
د. راقية جلال محمد الدويك
د. سمر ابراهيم ابراهيم السيد
دينا سعيد عاصم
رهام يوسف معلا
ياره السيد محمود محمد الطنطاوي
فاطمة محمد البسريني
محمد محمد جاد محسن
د. نهله عبد الحكم احمد عبد الباقي
د. عبد الوهاب المتولي بدر
زينب حمدي
حنان صلاح الدين محمد أبو العنين
د. شيماء أحمد عمارة
د. نهى فؤاد محمد رشاد
فيروز أكرم القطلبي 




































