ألم أخبرك عن ألم الانتظار؟ إنه يأخذ من الروح رونقها ورحيقها حتى يسلبها آخر رمق من الحياة.
ويسحب من القلب نبضاته ببُطءٍ نبضةً تلو النبضة بلا أي توقُّف أو حتى هُدنة لالتقاط الأنفاس.
حتى الأنفاس تكاد تختنق وهي تجاهد للدخول والخروج وكأنها حبيسة لذلك الصدر وأسيرةً لهذا الفؤاد، فلا ملاذ لها أو ملجأ منه إلا إليه.
ربما أصبح الانتظار أكثر قسوةً من الموت والفراق، بل هو أسوأ من كلاهما!
أغلقت الرسالة بعد أن قرأتها للمرة العاشرة، وكالعادة أعادتها إلى الصندوق المخملي الذي تحتفظ فيه بكل رسائله إليها ورسائلها التي لم تصل إليه، بل وتجتمع بداخله كل ذكرياتهما وأحلامهما سويًّا.
حاولت أن تسترخي قليلًا لتهدأ في محاولةٍ منها للنوم، عساها تُحاصِر ذلك الشعور الذي يسيطر عليها وينتابها كلما ذهبت لذلك الصندوق وتفقَّدت محتوياته وتصفَّحت تلك الرسائل بلا جدوى، وكأنه يُذكِّرها بكَمِّ الخيبات والانكسارات ورُبَّما الهزائم التي منيت بها بتلك الحياة.
يتملَّكها الحنين رغمًا عنها حتى إنه -وكما يبدو- قد دكَّ آخر حصونها لتفقد آخر قلاعها في محاولة مستميتة للحفاظ على ما تبقى منها من ثباتٍ ومقاومة؛ لمواراة عجزها وسوأة ضعفها.
تنهَّدت بأسى وهي تقول بصوتٍ خفيض: (آه) كانت آهةً مكتومةً بطُعم الوجع، غادرت صدرها لتلحق بكل الأمنيات التي ماتت وانتحرت على حافة الانتظار.
عبثًا حاولت النوم، وكالعادة أيضًا فشلت في ذلك فشلًا ذريعًا.
لذلك -وبلا تفكيرٍ كعادتها- ذهبت لتعُدَّ فنجانًا من القهوة، عساه يزيل عنها ذلك القلق والتوتُّر، ورُبَّما تستعيد من خلاله صفاء ذهنها أو بعض ثباتها.
أعدَّت قهوتها وجلست بجوار النافذة تُراقب الشتاء، ذلك الشتاء الذي يُشبه حياتها، غير أنَّ بالحياة عدة فصول تأتي خلف بعضها؛ لكسر الملل وروتين الحياة، فتتنوَّع ما بين صيف وخريف شتاء وربيع، بينما حياتها تحوَّلت لشتاء دائم يعقبه خريف مُقيم تتساقط فيه سنوات عمرها كأوراق شجرة شامخة قد تعرَّت من كل أحلامها التي سقطت أمنيةً تلو الأخرى.
تابعت بعينيها حبَّات المطر التي تناثرت على زجاج النافذة؛ لتكوِّن خيوطًا ومسارات متعرِّجة تُشبه كثيرًا تلك الحياة التي نعيشها، ونحن نظن أنَّ أحلامنا وأهدافنا نحن مَن نُحدِّدها ونُلاحِقها.
بينما نحنُ -وبالحقيقة- لسنا سوى أهداف لهذه الحياة، فدائمًا ما يُصيبنا القدَر بسهامه التي لا تُخطئ أبدًا مهما حاولنا تفاديها أو الابتعاد عن طريقها.
شردت بعقلها، بل ربما روحها هي التي شردت وهي تتذكَّر كلماته الأخيرة لها عندما احتضن كلتا يديها، وعيناه تحتضنان عينيها بحُبٍّ وشغف وهو يتنهَّد هامسًا ورُبَّما آسفًا بنفس الوقت وهو يقول بصوتٍ شاحب فقَدَ صداه:
- كثيرًا ما يهدينا القدَر هدايا غالية، ولكنه القدَر أيضًا هو مَن يجعلها مُغلَّفةً ومختومةً بتحذير ممنوع الفتح، هدايا مغلقة فلا يحقُّ لنا فتحها أو الاستمتاع بها، فقط نراها ونراقبها من بعيد، ممنوع علينا ومحرَّم أن نقترب منها أكثر ممَّا يجب أو نحاول الوصول إليها.
تظلُّ هدايا قدَرية مع إيقاف التنفيذ، عندما تتملَّكنا الرغبة في الحصول عليها ومخالفة القدَر نفقدها للأبد.
وكأنَّ محاولة الحصول عليها خطيئة كخطيئة تفاحة آدم لا تُغتفَر، فتكون العقوبة مغادرة الفردوس والنزول للأرض؛ لمواجهة كل صنوف المُعاناة ومكابدة الألم.
انسابت دموعها على وجنتيها وهي تستعيد نفس مشاعر الوجع، وكأنه وليد تلك اللحظة؛ ليُحفَر عليهما ذكريات غير قابلة للمحو ولا تزول مع الزمن.
أدركت وقتها أنَّ تلك العبارات كانت أصدق ما قيل وما سمعته بحياتها، فقد تحقَّقت كنبوءة أو رُبَّما لعنة أصابتها فلم تُخطئها.
كانت كلماته لها بمثابة الرصاصة الأخيرة، والتي استقرت بالوتين وكأنها رصاصة الرحمة بالنسبة لها؛ لتُجنِّبها ويلات الانتظار.
تنهَّدت وهي تأخذ آخر رشفة من فنجان قهوتها وتُطالِع الساعة، تلك الساعة التي شهدت آخر لقاء بينهما، وما زالت تُشير من خلف زجاجها المكسور للساعة التاسعة مساءً ذلك اليوم، بينما الوقت الآن بتوقيت ألمها يقترب من الفجر أرقًا وشغفًا.
ضحكت تلك الضحكة التي تختزل كل الألم والوجع الذي ما زالت تحتفظ به منذُ خمسة عشر عامًا، عندما سقطت هذه الساعة من يدها بهذا التوقيت على وقع كلماته القاسية عليهما رغم صدقها. وقعت من يدها لتتوقَّف عقاربها وتتوقَّف معها الحياة، لتبدأ مرحلة أخرى من الحياة بطعم القهوة المُرَّة، والتي -وبرغم مرارتها- نتعاطاها رشفةً رشفة.
توقَّفت عقارب الساعة عند نفس الأرقام التي تُشير للتاسعة؛ لتظل شاهدةً على إحدى الهزائم المتكررة والخيبات المتلاحقة وكسرٍ لم يُصِبْ فقط زجاج الساعة من الخارج، بل أصاب الروح والقلب معًا حتى استقرَّ بالوتين.
وما الزجاج إلا ذكرى لهذا الانكسار..
مرة أخرى نظرت للساعة ولعقاربها ووارتها بمعصمها، لتُذكِّرها دومًا بذلك الموعد والوعد الذي لم يتحقَّق، وبالحُلم الغائب الذي ذهب ولم ولن يعود رغم مرور كل هذه السنوات العِجَاف.
تمت