ألقى نظرةً جانبيةً على غرفة طفله الصغير، كانت ملامح الطفل تُوحي بمرضه الشديد، إذ بدا الاصفرار ينتشر على بشرته البيضاء، بينما جسده الصغير يرتعش في صمت، كانت تجلس بجواره أمه ممسكةً بإحدى يديها يده الصغيرة، بينما بالأخرى تحرِّك الضُّمادة على جبهته ورقبته، كان في طريقه ليغادر إلى الخارج، وبينما هو بقرب الباب إذ لحقت به زوجته، أمسكت بيده ثم نظرت بعينيه التي اغرورقت بالدموع، استحلفته بكل غالٍ لديه، توسَّلته بدموعها، أشارت نحو الطفل قائلة:
- من أجله هو لا تفعل.
أردفت قائلة: حذَّرتك كثيرًا من مغبة المال الحرام، لكنك لم تستجِب لي، عِدني أنك لن تأتي له بالعلاج من مال حرام، يمكنك أن تبيع ما تبقى من أثاث البيت، يمكنك أن تستدين مرة أخرى، يمكنك أن تتسوَّل إن شئت، لكن عِدني أنك لن تسرق مرة أخرى.
نظر بعينيها مباشرةً في ضعف وانكسار، ثم غادر لا يلوي على شيء.
وقف على محطة الحافلة ومع أول حافلة قادمة ركب دون أن يدري من أين إلى أين سيذهب، جلس بمقعده مهمومًا، كان يفكر كيف يمكنه الحصول على المال لعلاج طفله دون أن يسرق، هو لا يعرف شيئًا ولا يجيد شيئًا أكثر من السرقة، هكذا كانت طفولته بسبب نشأته في أسرة مفكَّكة، لا يدري كم عدد السرقات التي نفَّذها، ربما المئات أو آلاف المرات دون أن يكشفه أحد أو يتعرَّض للسجن مرة واحدة.
بعد عدة محطات ازدحمت الحافلة بالركاب، صعدت امرأة عجوز ما إن رآها حتى ترك مقعده لتجلس بدلًا منه، بينما هو واقف صعد أحدهم ليقف أمامه مباشرةً، كانت حافظة نقوده تبرز من جيب بنطاله، بحركة لا إرادية تحركت يده وفي خفة ومهارة يُحسَد عليها كانت حافظة النقود بين يديه، همَّ بالنزول، تذكَّر دموع زوجته وانتفاضة جسد طفله، سالت دموعه، سقطت حافظة النقود من يده، لكز الرجل الواقف أمامه، وما إن التفت إليه حتى أشار نحو الأرض قائلًا له: انتبه، لقد وقعت حافظة نقودك.
شكره الرجل في حرارة، ومع أول توقف للحافلة نزل منه.
كانت الشمس حارقةً والعرق يتصبَّب من وجهه في غزارة، وبينما يسير مهمومًا لا يلوي على شيء سمع وقع أقدام من خلفه مع أصوات وهمهمات مرتفعة لم يميِّز منها إلا كلمة لص، كان صراخ المارة يتزايد:
- أمسكوا به.. إنه لص.
دون أن يلتفت خلفه وفي عفوية أطلق ساقيه للريح وانطلق يجري بأقصى سرعة، كان يلهث بشدة، نبضات قلبه تدق بعنف، كادت قدماه تتورَّمان من سخونة الأرض بعد أن فقد حذاءه، وبينما هو يجري ووقع الأقدام من خلفه تذكَّر أنه لم يسرق شيئًا، نعم، هو لم يسرق فلمَ يهرب؟ وكما بدأ كل شيء فجأة انتهى فجأة، عندما توقَّف انحنى يلتقط أنفاسه المتقطعة، التفت جموع الناس من حوله، كانوا يعنِّفونه ويبصقون على وجهه ويضربونه، كان يصرخ في خوف لم أفعل شيئًا، لم أسرق أحدًا، اتركوني، ابني مريض، فتِّشوني ولن تجدوا شيئًا، تبرَّع أحدهم بالكلام قائلًا:
- لقد رأيتك بأم عيني وأنت تسرق حافظة النقود.
تبعه آخر يقول: لقد رأيتك تُلقي بها إلى شريكك في السرقة.
جاء الأمن ليقتادوه إلى مركز الشرطة وعمل محضر بالسرقة.
داخل أروقة المحكمة نادى الحاجب على قضيته متهمًا إيَّاه بالسرقة مندِّدًا بسلوكه الشاذ، سأله القاضي في احتقار:
- هل لديك ما تقوله؟
كانت عيناه تتجوَّلان داخل القاعة يبحث عن زوجته في لهفة، كرَّر القاضي سؤاله:
- هل لديك ما تقوله؟
كاد ينكر ارتكابه لهذه الجريمة، ودَّ لو يقسم أنه بريء، بطرف عينه لمح زوجته تدخل القاعة تحمل طفله الصغير، الذي بدا بصحة جيدة، اقتربت منه وقالت له بصوت خفيض:
- لقد سخَّر الله له أولاد الحلال.
كانت تنظر إليه نظراتٍ لائمة كأنها تعاتبه في صمت، هزَّ رأسه يُمنةً ويُسرى وسط دموعه، وبصوتٍ لم يغادر حنجرته قال:
- لم أفعلها.
علا صوت القاضي موجِّهًا حديثه إليه قائلًا:
- هل تقرُّ بجريمتك؟ هل أنت مذنب؟
نظر للقاضي مليًّا ثم قال في صوتٍ ممزوج بالألم:
- سيدي القاضي، من أجل طفلي هذا (ليشير نحو الطفل) قائلًا:
- لم أفعلها، لكنني مذنب، نعم سيدي القاضي، أنا مذنب وأستحق العقاب.
- تمت
ياسر محمود سلمي
د. محمد عبد الوهاب المتولي بدر
د. راقية جلال محمد الدويك
د. سمر ابراهيم ابراهيم السيد
دينا سعيد عاصم
رهام يوسف معلا
ياره السيد محمود محمد الطنطاوي
فاطمة محمد البسريني
محمد محمد جاد محسن
د. نهله عبد الحكم احمد عبد الباقي
د. عبد الوهاب المتولي بدر
زينب حمدي
حنان صلاح الدين محمد أبو العنين
د. شيماء أحمد عمارة
د. نهى فؤاد محمد رشاد
فيروز أكرم القطلبي 




































